علي عبد الأمير عجام*
هنا أرثي الجمال في سيرة إنسان أنيس وحالم وعادل وموضوعي، تعلمت منه رقة الموسيقى دون ان يتحول الى ملقن، وكانت تجربتي الاولى في اكتشاف السينما بوصفها معرفة وجمالا وتفتحا فكريا وحتى تسلية راقية، كانت على يديه، ففي يوم جمعة من العام 1969 اخذني الى عرض الواحدة بعد الظهر في "سينما الخيام" لمشاهدة فيلم "البؤساء"، وهو معالجة سينمائية حديثة في وقتها لرواية فيكتور هيجو الشهيرة، ومعه ايضا تعرفت الى ما يعنيه الحب من فكرة تسمو بالروح والعقل الانسانيين، حين أخذني الى "سينما غرناطة" لمشاهدة فيلم "غرباء عندما نلتقي" لكيرك دوغلاس وكيم نوفاك، وفي مشاهدتنا تلك نبهني الى كيف يمكن رؤية الفيلم بعيون"مختلفة"، فهو كشف لي كيف ان قصة الحب كانت تكبر بين المرأة والرجل في الفيلم مثلما كانت يكبر البيت الذي ابتدأ العمل به مع بداية علاقة الاثنين، ومعه تعرفت الى معان تربوية وانسانية عميقة من خلال فيلم" الى أستاذي..مع التحية" لسدني بواتييه وفي عرضه على شاشة "سينما غرناطة" ايضا. تعلمت منه جدوى الفكرة الإنسانية حين تتحول موقفا حياتيا، وتستحق حين تكون عادلة، ان يجند لها الفرد كل ما فيه من دأب واخلاص. تعلمت منه التسامح في بيئة سياسية وثقافية واجتماعية عراقية قائمة على الكراهية والإقصاء، وعرفت منه شهد الصدق موقفا حيال سموم الزيف والتضليل والخداع، جبلت معه على حب الأدب الرفيع منذ ان اهداني " ثلاثية نجيب محفوظ" تقديرا لنجاحي بتفوق وانا انهي دراستي المتوسطة، مثلما عرفت معه كيف يتحول البيت الشخصي، الى فسحة محبة مفتوحة على خطوات الناس، ثم كيف تتحول روح البلاد دمعا صادقا واملا حتى وان ضاق بين خنادق الموت في الحرب، أو مع المعاني السود للطغيان، وهنا للراحل الجميل اكثر من حكاية وموقف ، فهو الذي راوغ القسوة دون ان تتمكن ثقافة الإنحطاط من جوهر فكرته، رغم ان عملي كاتبا وصحافيا "معارضا" للنظام العراقي السابق ولسنوات في خارج البلاد ، جعله تحت دائرة ضغوط السلطة الغاشمة.
وفي سنوات منفاي كانت رسائله نصوصه متوهجة بالعذوبة وبالعذاب، تشع وجدانا مجبولا على الأمل، كان يمدني باشارات لاتنتهي – وان كانت رموزا – من ان امضي في خياري الى آخر الشوط حتى وان كان مثار متاعب لا تنتهي بالنسبة اليه.
كان يشدني الى فجيعة شخصية، حين يقول لي انه شعر باليتم الحقيقي حين اصبحت المسافات بيننا بعيدة، مثلما كان يلعب بمهارة على أشواقي حين يصف زياراته الى كربلاء او النجف كلما شعر بان خطرا جديا بدأ يحيط بي، وكيف كان يحيي ذكرى وفاة أمي وأبي بشموع وابتهالات مضاعفة، سببها غيابي الذي كان بدأ، ليس من خروجي الى المنفى، بل منذ ان اخذتني الحرب من بيته الرحيب الى مواسمها المرعبة، وكيف قطع مئات الكيلومترات مرعوبا يبحث عني بين الجثث والاشلاء الممزقة، يوم انكسر ظهر البلاد في حرب الخليج الثانية 1991، وكيف ضمني اليه وانا حطام انسان، وكيف ضمني مودعا إياي قبل سفري الى خارج البلاد حاملا معه نصي " هذه الارض ليست لي" الذي أحزنه كثيرا بل أشقاه لما وجد فيه من نبوءة ما كان يريد أن يصدقها رغم إنه تحدث لي مطولا عن عميق رؤاها، وكيف ضمني باكيا كطفل حين عدت الى البلاد ليهدأ قليلا من مخاوفه علي ثم عاد اليها مع أول اطلالة لوحش العنف، وهو يراني ناشطا في الاعلام حيث كنت مدير المركز الصحافي لحركة الوفاق الوطني، ورئيس تحرير جريدة "بغداد"، ومراسل لصحيفة "الحياة" و"راديو سوا" وعضو اللجنة الاعلامية في المؤسسة السياسية لمابعد الديكتاتورية "مجلس الحكم"، دون ان يدري ان القتلة سيكونوا أبرع مما تصور، فقتلوني يوم حفروا برصاصهم جبهته المضيئة.
حين زارني في مكتبي بصحيفة "بغداد" ايار 2003 ومعه ولدا اختي فراس وصلاح مهدي
لم يعلمني حب الأرض، لكنني ادمنت ذلك فيه حين زاوج بمهارة بين حكمة التربة حيث تخصصه العلمي وحذاقة النقد الأدبي والفني، ولم يكن يشير الي بحاجة الأديب الى المعرفة العلمية التي تزيد اللغة والخيال خصبا لكنني عرفت ذلك من مشاريعه التي امتدت من " مايكروبايولوجيا التربة" الى دأبه العميق في تحليل النصوص الأدبية والنظر بمزيج نادر من الفكر الإجتماعي النقدي والدراية بجماليات فنية الى الاعمال السينمائية والدراما التلفزيونية.
واشنطن 14 ايار 2005
* رابط الجزء الاول من النص:
|