قاسم عبد الامير عجام محاضرا في "اتحاد ادباء بابل"
ستقول هذه سياسة، وخطاب سياسي إذن !! واقول: نعم سياسة في الثقافة او ثقافة مسيسة، ولو تأملنا متحررين مما اشاعته مزايدات الحداثيين التي هربوا فوقها من المواجهة مع النظام الفاشي او حتى من احتمالها من اوهام وإدعاءات، لرأينا ان كل ثقافة عميقة لا بد من ان تكون مسيسة، بل ان مفهوم المثقف العضوي الذي يشدد عليه إدوارد سعيد نقلا عن غرامشي، او عملا بما رآه ليس سوى ذلك المثقف المسيس في التطبيق .. فعلا وتأثيرا في مجتمعه، وبالمثل نجد ان اشتراط عالم الاجتماع المصري المعروف سيد عويس، صفة التغيير او القدرة عليه شرطا للثقافة ليس إلا استيعابا لتلك الحقيقة وانطلاقا منها، فإن الثقافة المغيرة مسيسة او سياسية بالضرورة بصرف النظر عن اتجاه التغيير، واشتراطه صفة كونها نقدية، هو الآخر تأكيد لحقيقتها السياسية الكامنة فيها.
ولذا ليس مصادفة ولا بدون مغزى أن يكون المثقف السياسي هو الغائب الاكبر عن ساحة الحياة الثقافية في الفترة الفاشية، وان يكون النفاق السياسي هو العملة الرائجة الوحيدة أما امتداحا للطاغية وأما تبريرا لخطاياه باغلفة تدعي منطق السياسة، ولذا اضمحلت او كادت حقول الفكر السياسي والادب السياسي، وبهت الجسد الثقافي واضمحل لترداده مقولات تركز على هياكل شكلية متعامية – خوفا او تناسيا وتهربا – عن القضايا الجوهرية في اي عنصر فيه.
النقد الثقافي ..أهمية قصوى
وأحسب ان النقد الادبي ابرز الامثلة على ما اقول، ففي تصوري ان النقد الادبي نافذة كبرى على الشأن الثقافي العام وأنه لن يكون فعًالا حقا ما لم يكن نقدا ثقافيا حتى وهو يعنى بقضايا الحرفة، فهذه لم تبرز عن فراغ ولذا تهرب نقدنا من مسؤوليته هذه تحت سوط العسف العفلقي الى شكلانية فاقعة تكرر مترجمات ليست متقنة عن هذه المدرسة النقدية أو تلك.
من هنا اجد ان النهوض الثقافي لن يكون حقيقة ما لم يكن على ارضية سياسية، وليست ارضيتها السياسية اليوم سوى هويتنا العراقية، نعم، العراق اولا والعراقي اولا، وليس ذلك انغلاقا عن هموم قومية او تفاعل ديني كما قد يتبدى للبعض بفعل التكرار الديماغوغي الكاذب لدعاوى البعد القومي والقطرية .. الخ .. بل إن الحقائق اكدت ان إلغاء الهوية العراقية قد اخرج العراق عن اي فعل قومي حقيقي .. بل جعله مصدر الخطر المقيم والكوارث المتلاحقة على المصلحة القومية.
على النقيض من ذلك ان تأكيد الهوية العراقية يعني بل يوجب تنوعا ثرا من المنجزات العرقية والقومية والمذهبية والدينية من شأنه إغناء العمل الثقافي والابداعي منه بشكل خاص، وكي يكون ذلك ممكنا، فإن الانطلاق من قاعدة حرية الفكر وحق المواطن والوطن بالديمقراطية منهجا وغاية، أولى الاولويات، لا لتأكيد فرص التطور فقط وإنما للإزدهار الثقافي وحاضنة لتجدده .. تأكيدا لتلك الهوية .. نقول، كما كان عنوانا لمقالتين نشرتهما أخيرا .... دونكم محرمات الخراب :
1 من اول محرًمات الخراب كان التعاطي مع ادب المنفى، ولذا لا بد من ان نتجه لهذا الادب الذي ابدعه العراقيون الذين ارتضوا الغربة سبيلا لرفض النظام وتحـدي عسفه.
ولكن اولا - اين هو؟ هذا سؤال دعوة لمبدعيه العائدين او الذين سيعودون، أين مانشرتموه في الخارج؟ وكيف السبيل اليه؟ وسؤال دعوة لدورالنشرالتي نأمـل بتأسيسها وندعو اليها كي تعيد نشره او فلتبادر بعض صحفنا الكبيرة بنشر بعض الاعمال على حلقات، او – وهو اضعف الايمان – فلنتبادله مستنسخا، كما فعلناه فـي بعض ما وصلنا من المنفى متسللا من ثغرات الحصار الفاشي المظلم، لنعرفه بهذا الادب وكتًابه ... وبينهم اسماء لم نعرفها من قبل بل تألقت اصلا في ديار الغربـة ووحشة المنافي، لندرسه نقديا .. فنلتقط شفراته الفكرية والفنية.
لماذا؟ هذا ادب كتب في جو الحرية او بعيدا عن المحرمات في المضمون والشكل .. فكيف رأى المبدع محنة الوطن في هذا الجو؟ وكيف يثمر التأمل في الغربة؟ ولنتسائل ... اي الوان الابداع كان الساحة الاوسع لاحتضان المبدع الغريب؟ ولماذا؟ لدينا ما يشير إلى ان الرواية قد احتلت تلك الساحة، فإن صح ذلك .. فلماذا؟ وكيف كان تشكيلها؟ وكم سترفدنا اشكالها في إبداع الوطن الجديد؟ وماذا كتب عنَا اخوتنا في المنفى؟ كيف قرأونا ونحن نتلظَى وراء التوريات او نقاوم – او نحاول ذلك – الرداءة؟ وماذا عن منابر المنافي، اي المجلات والصحف؟
حسنا .. نحن امام آفاق تتسع باستمرار من مجرد هتك محرَم واحد فما بالك بهتك المحرًمات الصدامية الاخرى؟ دونكم محرًمات الخراب ثانية - فلن تخسروا سـوى الجدب وضآلة الحصاد ..
أعيدوا الحق الى نصابه .. أعني ان تعالوا نعود لدراسة من صادرهم العسف منا، من تاريخنا الثقافي ووجداننا الاجتماعي، في الغربة كانوا أم في منفى الوطن، فقد استسلـم وسطنا الثقافي لتجاهل المنجز الجوهري، وكأنه خارج الدرس النقدي، واقول وسطنا الثقافي، اعني الكتابات المنشورة او ما يمكن نشره وقيود النشر! وغاب عـن نقدنا منذ غادرنا، سعدي يوسف والحيدري بلند، مع انهما ما انقطعا عن الابـداع والتجديد ... مثلما لم يكن ما انجزاه في الوطن قليلا. غائب، البياتي، صادق الصائغ، الجزائري زهير، ياسين النصير، نبيل ياسين وعشرات من الاسماء كان لهم ما انجزوه قبل النفي واضافوا اليه ولكننا اسكتنا عنهم، فحرم درسنا النقدي من محاورتهم نقديا، نعم درس بعضهم ذات يوم، ولكننا لــم ندرسهم بعد ان اغتنت وسائل النقد وتعددت مداخله، وما امكن نشره من تواصلات ذلك الدرس لم يكن كل ما يحتمله إبداعهم، ولكننا لم نجرؤ على نشر كل الاحتمالات وبذا لم نستخلص رسائلهم الفكرية كلها.
بل إن الرسائل الفكرية حوربت وجنًد النظام العديد ممن تخصص بتطويقهـا اوالتعمية عليها في كل نص ابداعي تحت ذرائع ومسميات شتى، ابرزها إعـلاء التيارات الشكلانية. مبدعون كبار في التشكيل، في المعمار، في الطب، في التاريخ ولكننا أسكتنا عنهم، استسلمنا لتجاهلهم وآن الأوان لاستحضار تجاربهم، منابر فكرية صارالحديث عنها بعض المحرًمات، ودراستها الآن من سبل إغناء الخطاب الثقافي، فكثيرا ما ارتبطت بأسماء، وكثيرا ما عنى الاسم المنبر والمنبر إسما! ابو سعيد وابو كاطع.
والمقالة الصحفية المتميزة وهذا باب مفتوح لتجربة "طريق الشعب" وقبلها "اتحـاد الشعب" صحفيا ..صلاح خالص وتجربة مجلة "الثقافة"، مجلة "المثقف" وثقافة 14 تموز حتى استشهاد عبد الكريم قاسم. إن هتك هذا المحرًم إغناء أو رفد معرفي لجيلنا الجديد وإثراء لمعارف جيلنا.
*سلسلة من المقالات نشرها قاسم عجام في جريدة"المدى" وحملت عنوانا ثابتا رغم تعدد محاوره "ملامح من خطاب ثقافي لمواجهة ما بعد الفاشية"، وبدت تلك السلسلة فضلا عن البرنامج الذي قدمه الراحل الى وزراة الثقافة باسم "اتحاد ادباء بابل" برنامجا عمليا لاعادة بناء الثقافة العراقية.