حين كان الكاتب والمفكر اللبناني حازم صاغيّة يتحدث معي، من لندن عبر الهاتف، كي ينهي فصلا متعلقا بالموسيقى والثقافة في كتابه عن عراق صدام حسين، ذكرت له كيف قامت الدولة بـ"تأميم الحناجر الغنائية"، أي ربط الموسيقى والغناء بعجلة نظام الحكم، وجعل المشاعر التي تنتجها الأنغام ملكا للدولة، وهتف صاغيّة من بعيد مرتاحا للوصف، وهو كذلك فعلا حين أستعيده هنا، فماذا تعنيه أغنية "وطنية" و"سياسية" في منظومات الثقافة التي ينتجها نظام معين، وماذا تعنيه أكثر اذا كان النظام "ثوريا"؟ ليس جديدا إرتباط الغناء باغراض الحماسة، والحضّ على الدفاع عن الأوطان، بل ان مراجعة سريعة حتى لعيون الموسيقى "الكلاسيكية" تضعنا حيال لائحة من أعمال قصدها أصحابها ان تكون "وطنية" تثير حماسة المقاتلين، خذ "إفتتاحية 1812" لتشايكوفسكي مثلا، أو سيمفونية بيتهوفن الثالثة: "البطولة"، بل خذ أغنيات المقاومين اليساريين الإسبان، ولاحقا الفرنسيين، وخذ بعض أغنيات المقاومة الفلسطينية وقليلا من أناشيدها، لكن اذا كان الأغنيات والألحان "الوطنية" و"القومية" من نتاج الإنظمة العربية فانك إن استعدتها، فانما تستعيد مرحلة إندحار العقل العربي والإنساني الى فجاجة كالتي تعنيها "مسرحية" تصوير الهزيمة المجردة على انها صمود وتصد يقاربان النصر، إن لم يكوناه أصلا، وإنتظام أهل الطرب والألحان في الجزء المتعلق بهم في المسرحية، اي أعلاء الصوت عن المجد والشرف العالي والبطولة، وباقي الأرشيف "الوطني" الحماسي لإنظمة الثورات الجمهورية العربية. وطبقا لمبدأ "القاعدة والإستثناء"، فان ما شّذ عن "رطانة" الأغنية "الوطنية" و"السياسية" العربية، كان في البناء الموسيقي الرصين لأعمال غنائية مصرية ولبنانية غالبا، مما وفّر لتلك الأعمال التي استثمرت نفوذ أصحابها: أم كلثوم، عبد الوهاب، عبد الحليم حافظ، فريد الأطرش، فيروز و الرحابنة بضمنهم زياد، ان تصبح "ذاكرة وطنية" لكنها لم تمنع الذاكرة من ان تتكشف أيضا على فواجع وحقائق مرة، على الرغم من انها إرتبطت بما أعتبر واجبا مقدسا: الدفاع عن الوطن ووجوده. ما بعد الأغنية "الوطنية" (1948-1967) جاءت مرحلة الأغنية "السياسية" أو "الثورية" أو "الملتزمة" ، وهي مرحلة صعود التيارات اليسارية والقومية ونشاطها الذي أعتبر ردا على هزيمة 5 حزيران 1967، و "الأغنية الملتزمة " أصبحت، بحكم الإعتياد في التداول الثقافي العربي، تعني التزام أصحابها بنهج أحزاب يسارية وثورية، أكثر ما تعنيه إلتزام "نهج فني ثوري" يخرج على "ثقافة الهزيمة"، وبذلك تحول"الفن الملتزم" مؤشرا للصلة بالحزب اليساري أو الحركة الثورية، وليس "الثورة" في مراجعات لمضامين النص الشعري أو الموسيقي وشكل الأداء الفني. وما إن دخل "الغناء الملتزم" في باحة العمل السياسي اليساري والثوري، حتى أصبح نتاجه الفني"منطقة مقدسة" يحرسها أشباه المثقفين من كتاب وإعلاميي الأحزاب اليسارية والجماعات الثورية، مما أرهب النقد الفني والموسيقي كي لايحاول مراجعة البناء الفني المهلهل لذلك النتاج، وهو إن فعل فثمة القاموس حاضر ومفردات الإتهام فاعلة فيه وجاهزة: يميني، رجعي، ومتخلف. ان نهجا كهذا (الوصاية الحزبية) يمكن تلمسه في تجربة الغناء "الملتزم" في العراق، لبنان، مصر، فلسطين، والمغرب العربي، وهو ما كان سببا جوهريا أتى على تجربة "الأغنية الملتزمة" وأحالها من فكرة التعبير الحر خارج النظام الرسمي الثقافي، الى مجرد نظام دعائي ملحق باتجاهات حزبية وآيديولوجية.
الأغنية "الوطنية" و"السياسية" وما بينهما "الثورية"و"الملتزمة"
يلفت الباحث والفنان الموسيقي العراقي الأستاذ حميد البصري في باب الإستعادة التاريخية للأغنية السياسية وانتشارها عراقيا وعربيا، الى أن "مفردة الأغنية السياسية انتشرت في النصف الثاني من القرن العشرين مرتبطة بالأغنية الرافضة، الأغنية الملتزمة بالجماهير، الأغنية التي تدعو الى التغيير، الأغنية التقدمية، رغم أن أية أغنية هي سياسية بامتياز لارتباطها بمفهوم معين من الحياة"، وفي حين تبدو تعبيرات مثل" ملتزمة بالجماهير" و "تدعو الى التغيير" أو "كل أغنية هي سياسية بإمتياز" بحاجة الى مناقشة عميقة لنقلها من مجال "فضفاض" كالتي هي عليه الى تعبيرات بدلالات محددة، الا ان اللافت في حديث الأستاذ البصري هو ربطه إنتشار الأغنية السياسية بروح التضامن التي سادت اليسار العالمي ومنه العربي مع تجربة شيلي وتحديدا ما بعد إعدام سلطات الإنقلاب العسكري أيلول 1973 للمغني فيكتور جارا، فيقول "إنتشرت فكرة الأغنية السياسية في الوطن العربي بشكل واسع مع شهرة المغني الشيلي فيكتور جارا خاصة بعد أن أقدمت السلطة الدكتاتورية في شيلي على قطع أصابع يده في احدى الساحات أمام الجماهير، لكي لا يتمكن من العزف، مما حدا بفكتور جارا الى الغناء بدون آلة موسيقية، فرددت الجماهير معه أغنيته وطار عقل الجلادين من ذلك الموقف فقتلوا فكتور جارا".
المغني الشيلي الراحل فيكتور جارا
ويؤسس البصري على هذا الحادث ويعتبره "أحد الحوافز الذي أدى الى ظهور الأغنية السياسية على مستوى الوطن العربي، ففي مصربدأت أغاني الشيخ امام والشاعراحمد فؤاد نجم بالانتشار بشكل واسع" فيما المراجعة التاريخية لظاهرة "الشيخ إمام" تكشف انها ظاهرة انتجتها نقمة فكرية وشعبية "سرية" على الإغلب، على نظام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، إثر هزيمته في 1967، أي قبل قصة المغني الشيلي بما فيها من "إحالات يسارية"، وعدم بلوغ "ظاهرة الشيخ إمام" مرحلة العلن كان عائدا الى ولاء اليساريين العرب لعبد الناصر ونظامه، وجاء موته ومن ثم تولي "اليميني" أنور السادات السلطة في مصر وإفتراقه عن الإتحاد السوفياتي سببا كافيا لليساريين العرب في الحديث عن الثنائي: الشيخ إمام- أحمد فؤاد نجم الذي كان بدأ "الثورية" خارج أي معيار سياسي أو آيديولجي محدد، ولم يتردد بتوجيه النقد الى "مقدّس" إسمه عبد الناصر. وفي ما خص حال "الأغنية السياسية" عراقيا، فاننا نستعيد ما كتبه الإستاذ حميد البصري أيضا: "في العراق، بدأت الأغنية السياسية في سجون العهد الملكي، ثم مع بداية ثورة تموز 1958، وزادت بعد إنتكاسة هذه الثورة وسيطرة التيار القومي، والبعثي بالذات على السلطة، فكان للحزب الشيوعي العراقي أكثر من فرقة للأغنية السياسية. ومن فناني الأغنية السياسية في العراق: حميد البصري، شوقية العطار، جعفر حسن، طالب غالي، سامي كمال، كمال السيد، فؤاد سالم، طارق الشبلي. ومن الفرق "جماعة تموز للأغنية الجديدة" التي تحول إسمها بعدئذ الى "فرقة الطريق" و "فرقة الشموع" التي ضمت عددا من الطلبة العراقيين في موسكو". هنا يختار البصري، إنتماء آيديولوجيا لتحديد "الأغنية السياسية"، وهو قد يكون سهوا أغفل ذكر الملحن كوكب حمزة، الذي صاغ "بعيدا عن التأطير الفكري الحزبي، مع انه إبن الحزب الشيوعي العراقي" أجمل ما يمكن ان تحفظه ذاكرة الأغنية العراقية المعاصرة لجهة "البناء الإجتماعي والفكري" العميق والمبثوث بلا تعسف في بناء موسيقي من النادر تكراره: عميقا يتصل بالموروث، وبقوة هاجس إنساني يسعى الى حداثة حقيقية، وهو في حقيقته ترجمة عميقة لفكرة "الثورية" في الفن.
الأغنية السياسية العربية الآن: إنحطاط الغناء و..السياسة في حين تتحول المغنية جوليا بطرس من مديح "الجنوب" كدلالة مقاومة وحرية، الى مديح الجنرالات والعمائم، وفي حين يثني الموسيقار مارسيل خليفة على حادثة رمي الحذاء نحو الرئيس الأميركي، وإذ يصبح المغنيان "المنشزان": المصري شعبان عبدالرحيم والسوري علي الديك "ضمير الأمة"، وتستعاد أغنيات مديح صدام بوصفها أناشيد "المقاومة" العراقية، فان كل ما أوردناه من ملاحظات "ناقدة" على نتاج الأغنية العربية "السياسية" و"الثورية" سيصبح تجنيا وفاقدا لعناصره الموضوعية، وكنا سنعترف بذلك لو كان صحيحا، لكن الأمر هو مرة أخرى إثبات لفكرتنا من ان الأغنية مرآة عصرها التي تكشف عناصره وتفاصيله، فحال الأغنية العربية السياسية اليوم هو إنعكاس لعصرها: إنحطاط الغناء و...السياسة. واذا كانت الأغنية السياسية العربية في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، تولد من صلب الإحساس العميق بالألم والوجع، وكانت تستند الى ذخيرة من فكرة وحلم مشروع (رغم كل الملاحظات)، وظلت قرينة بالإمل، وإن بدا خافتاً، فانها كانت نتاج ثقافة جادة تحاول ان تتقاطع مع كل أشكال الزيف والرداءة والتخلف. كان هذا في "هزائم الماضي"، أما في هزائمنا المعاصرة(والكلام للكاتب المصري نبيل شرف الدين )، فهناك من يرى أن الاغنية السياسية غابت بغياب الظرف السياسي الملائم وغياب القوى الحاضنة لها، وغياب الأفق والتطلعات، لهذا أصبحت أغنية يتيمة بلا دعم ولا داعم، بعد أن تضعضعت الرؤية لدى الناس، ولم يعد هناك من يرغب في ركوب المغامرة، ضاقت الأماكن الفسيحة الوعرة، وآثر الجميع السلامة، لتصبح الأغنية السياسية في عهدة شخص أميّ يغني للسكارى أسمه: شعبان عبد الرحيم. الشيخ إمام عيسى، الذي أنشد "مصر يما يابهية " لتصبح رسالة مصر المجروحة بالهزيمة في حزيران 1967، ذلك المغني والملحن الضرير الذي عاش ومات في إحدى حواري القاهرة، كان بعوده المليء بالشجن، واستنادا الى كلمات شاعر شريد، تمكن من تغيير صورة المصير "الوطني" في الغناء، لتصبح صورة "المواطن" في حيرته وآماله، في عجزه وجزعه، في سعادته ويأسه أيضا. بعد أكثر من عقد على رحيل الشيخ إمام الذي تعلم العزف على العود، ثم بدأ يمارس الغناء كمحترف وترك قراءة القرآن، حتى العام 1962 حين تعرف على الشاعر أحمد فؤاد نجم، لتبدأ منهما ومعهما "حدوتة مصرية" من نوع مختلف، يبدومشهد "الأغنية السياسية " وهو أقرب الى لحظة " إنحطاط " عربية، إذ يتحول " الأميّ " شعبان عبد الرحيم الى " صوت الوجدان الشعبي العربي"، فهو"يكره إسرائيل ويحب العروبة ممثلة بعمرو موسى"، وهو أيضا المندد بالسياسة الإميركية، وهو "الضمير العربي حين يتضامن مع العراقيين في محنتهم". الرجل باختصار هو الإبتذال يمشي على قدمين، إبتذال المظهر والسلوك والثقافة، وفي حين يكون الإبتذال صوت "الوجدان العربي" وصورة "الأغنية السياسية"، فان هذا مؤشر آخر على إنحطاط الغناء... والسياسة. واذا كان لمصر التي من نسيمها الروحي المنعش "رّق الحبيب"، صوتها "الشعبي" ممثلا بشعبان عبدالرحيم ، فان لسوريا الياسمين وعطر الشرق، صوتها "الشعبي" أيضا، فالمغني علي الديك قرر الدخول الى ميدان الأغنية "السياسية" بعد شهرة واسعة في غناء، هو مسخ فولكلوري، عبر أغنية تسخر من المحقق الألماني ديتليف ميليس المكلف بالكشف عن منفذي إغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، وهو ما وجد فيه فرصة كي يلقم أفواه معارضيه الوطنيين، حجرا لايمكن لهم بعده التعبير حتى ولو بنقد خفيف، فهو إنتقل عبر أغنيته "ميليس" الى مستوى الأمن "الوطني" ونقده يعني نقد الوطن والإساءة اليه، لاسيما انه أختار كلاما منسجما مع هاجس شعبي سوري يحمل بقوة على المحقق الدولي، ويرى فيها نسخة جديدة من "محققين دوليين مهدوا الطريق الى غزو العراق". وفي ما خص البنية الفنية للأغنية السياسية التي أحالتها ظاهرتي شعبان عبدالرحيم وعلي الديك الى مستوى "شعبي" يقارب الإبتذال إن لم يكونه فعليا، يشير الناقد الموسيقي اللبناني عبد الغني طليس الى ان اللافت في ظاهرة عبد الرحيم والديك هو "خروج "الأغنية السياسية" العربية الساخرة من خانة التلميح إلى خانة التصريح، ومن موقع النصوص الشعرية المثقفة مبنى ومعنى، والألحان الإحترافية، إلى موقع النصوص الترفيهية في المبنى والمعنى والألحان الفطرية، من دون أن يعني ذلك مطلقاً تكسير مجاذيف الفكرة السياسية – الوطنية التي تنطلق منها الأغنيتان. فما نعني هو إنحياز الأغنية التي توصف بأنها "سياسية" إلى الفن الأقرب إلى الارتجال منه إلى التفكر، وإعتماد لغة فنية مباشرة جداً، وتصويرية جداً، وانفعالية جداً في حين كانت الأغنية السياسية العربية عموماً قد حسمت توجهها إلى ما هو أعمق في الصياغة والأسلوب والهدف". وفي مجال المقارنة بين حال الأغنية السياسية العربية في عصرها "الذهبي"، و مما هي عليه الآن يمكننا قراءة المشهد من إطلالة كذه: لم يكن شعبان عبدالرحيم قادراً على إنجاز أغنية "أقوى" فنياً من أغنيته التي... ذهبت مثلاً، وكذلك لم يكن علي الديك قادراً على أغنية أفضل من أغنيته لميليس. وكذلك أيضاً لا يبدو المغنون والمغنيات وشركات الإنتاج وربما الجمهور معهم، قادرين على "طلب" أغنية اكثر انتماء إلى سيد درويش أو زياد الرحباني أو مارسيل خليفة. فخلق البساطة التي جمعت درويش والرحباني، هناك ما يشبه "الفلسفة" الإنسانية الساخرة الموجعة، وخلف المستوى الإحترافي الذي اختاره خليفة هناك ما يشبه بساطة العمق. وكانت الأغنية السياسية (أو هكذا توهمنا) قد عقدت العزم على ألا تغادر هذه المساحة، فإذا بها تغادر إلى ما نرى في اتجاه آخر لا يمكن إنكار ما له من مدى جماهيري فوري، إذا اعتمدنا الصدق في القياس. بعد محاولة إحراق المسجد الأقصى في أواسط الستينات صدرت أغان كثيرة، كانت وما تزال أبرزها اغنية فيروز "زهرة المدائن" حتى ليمكن القول إنها الأغنية الوحيدة التي صدرت فيما خص القدس ومعناها. وفي العالم العربي اليوم أحداث سياسية كثيرة وساخنة، وقد صدرت أغان كثيرة تتحدث عن تلك "المناسبات"، لكن الأغنية التي تستطيع أن تقول موقفاً فنياً إبداعياً حقيقياً لم تصدربعد.
*فصل من كتاب تحت الطبع بعنوان في "سوسيولوجيا الاغنية- 50 عاما من تاريخ العراق المعاصر عبر الموسيقى".
|