تبدو أي مراجعة لاحداث الموسيقى والغناء في العام 2010 صعبة لانها تعني متابعة فنون صارت مرادفة لنبض البشر اينما كانوا لاسيما مع ثورة الاتصالات وامكانية الوصول على اكبر التظاهرات الموسيقية واروع الالحان بكبسة واحدة على الكومبيوتر، أو باعادة توجيه مفتاح تغيير القنوات التلفزيونية ومنها عشرات باتت متخصصة بالاغنيات والموسيقى ومن كل نوع. انطلاقا من هذا كيف يمكن رسم ملامح حصيلة العام 2010 غنائيا وموسيقيا؟ ويبدو ان افضل طريقة للاجابة على هذا السؤال هو ان نخوض في واقعنا الموسيقي العربي وابرز ما سجله في العام، ففي وفرة الاصوات والالحان يمكن تسجيل عدد من المهرجانات الغنائية والثقافية التي اعتنت بالموسيقى وخصصت لها حيزا كبيرا، مثلما يمكن تسجيل حضور جميل لاغنيات والحان رغم طغيان الكثير من الاغنيات السطحية والعابرة صوتا والحانا وكلاما وحتى صورة، طالما ان الفيديو كليب بات اليوم واحدا من عناصر الاغنية وتذوقها. وفي حين تتعدد المهرجانات الموسيقية في اكثر من عاصمة عربية الا ان لمهرجان ومؤتمر الموسيقى العربية الذي تستضيفه مصر كل عام ومنذ 1991 ، ملمحا خاصا وبارزا وفيه يصبح المهرجان احد الدعائم الكبرى للموسيقى العربية الاصيلة، مع نهجه القائم على الانفتاح على الجديد الرصين في الغناء العربي، وتكفي مراجعة اولية لنجومه هذا العام لتأكيد هذه المعادلة الصعبة التي حرصت الاستاذة الحفني على الالتزام بها: الدفاع عن الرصانة مع الانفتاح على الجديد الجميل والرقيق في الغناء والموسيقى مصريا وعربيا. للاردن ايضا مهرجانه الثقافي السنوي وللموسيقى فيه حصة بارزة كذلك وان كان بتعدد اكثر في لبنان، والامر ذاته اي تعدد المهرجانات الموسيقية نجده في تونس والمغرب وفي دولة الامارات حيث مهرجان أبوظبي 2010 واحتفالية الذكرى المئوية الثانية لولادة المؤلف الموسيقي الشهير شوبان، والحدث ذاته وجد حفاوة ايضا في الاردن بتوقيع من اوركسترا عمان السيمفوني. ومثلما تنشط المهرجانات الموسيقية في العواصم العربية، تتعدد الاشكال النغمية فمن الغناء العربي الكلاسيكي الى العناية بالتجارب الحديثة كـ"الجاز الشرقي" و"الفيوزن" الذي يمزج الانغام الموروثة بالالحان والايقاعات الحديثة، فضلا عن ان اغلب العواصم العربية اصبحت لها امسياتها من الموسيقى الكلاسيكية الغربية عبر فنانين عرب او اجانب يقصدون تلك العواصم لمزيد من الاتصال الثقافي والفني، بل ان دار الاوبرا المصرية تنظم مهرجانا خاصا بمؤلفات عربية وفق اساليب الموسيقى الاوروبية الكلاسيكية. وكانت اسطوانة المطربة الكبيرة فيروز "ايه في امل" واحدة من العلامات المثيرة في الغناء العربي للعام 2010 لجهة قدرة صاحبة أغنية "نحنا والقمر جيران" على ان تغني وتحث على الامل والحب حتى وهي في عقدها السابع، على الرغم مما اثارته الاسطوانة من ملاحظات تتعلق بالالحان التي صاغها زياد الرحباني وبالتعب الذي امكن ملاحظته على صوت المطربة الكبيرة.
غلاف اسطوانة المطربة الكبيرة فيروز "ايه في امل"
وعلى سيرة الاصوات الجميلة واغنياتها هناك لمسة حب رقيقة في اغنية وائل جسار الجديدة "مليون احبك"، مثلما هناك لمسة حب انثوية لطيفة تقدمها انغام التي نالت تكريم مهرجان الموسيقى العربية هذا العام، كذلك نجد اللمسة ذاتها عند صوت نانسي عجرم في اغنيتها " في حاجات"، بينما كانت اغنيات شيرين عبد الوهاب في اسطوانتها العام 2010 بمعظمها موفقة وتؤكد حضور الصوت المصري الاسمر بحلاوته وتميزه، كذلك نجد الصوت المغربي جنات وهي تستمر في ادائها وحضورها اللطيفين. ويواصل الصوت العاطفي فضل شاكر مشواره الرقيق فيترك بصمة على جديد الغناء في 2010 عبر اسطوانته "انا اشتقتلك" التي تضمنت اغنية بالعنوان ذاتها من النادر العثور عليها في مشهدنا الغنائي العربي المعاصر، فيما تواصل اصوات رجالية مصرية وعربية شابة تقديم بعض الغناء الخفيف ولكن دونما اسفاف وهو ما يوفر لها قبولا طيبا، غير انها ليست بذات التاثير الذي تاتي عليه اصوات مدعومة من فضائيات شركات الانتاج الغنائي التي تروج لبضاعتها وهي على الاغلب ليست معنية بالعناصر الفنية وبالاصول الموسيقية الراقية. الجميل والرقيق من النغم لم يكن يأتي عبر الغناء وحسب بل عبر الموسيقى الالية التي صارت لها الكثير من الفرق عربيا والتي راحت تجرب تقديم اعمالها الى جمهور لم يتذوق هذا الشكل من اللحن العربي كثيرا، فهو جمهور اعتاد الغناء كشكل وحيد ذن للموسيقى، لكن محاولات كالتي نجدها مثلا في مهرجان الموسيقى العربية بدار الاوبرا المصرية في تنظيم حفلات لفرق من مصر ودول عربية تقدم موسيقى الية وتجذب معها مزيدا من الجمهور. من هنا لم يكن النتاج الموسيقي والغنائي العربي بمجمله سيئا مثلما لم يكن جيدا ورصينا لكن علامات الجودة فيه تتقدم وتخط طريقها وإن كان ذلك بصعوبة. عالميا لا تبدو الصورة مختلفة كثيرا عن راهن الموسيقى والغناء عربيا، لكن الصناعة الفنية هناك من الضخامة والاتساع ما يمكنها ان تخلط كل التظاهرات الانسانية بالموسيقى والانغام، فشاهدنا حشدا من كبار نجوم النغم في اميركا واوروبا وافريقيا في حفل افتتاح بطولة كأس العالم جنوب أفريقيا 2010، وتزامن إجراء أول بطولة لكأس العالم تقام على أرض أفريقية مع إقامة أكبر حدث ترفيهي في تاريخ القارة السمراء على الإطلاق، حيث جمع بين أبرز نجوم الموسيقى العالمية وأشهر الوجوه الفنية الأفريقية، إضافة إلى حضور بعض أساطير كرة القدم والمشاهير من مختلف المجالات الفنية والرياضية وغيرها. والحدث كان مؤشرا فعليا على الطابع الكوني الذي تتسم به كرة القدم والموسيقى على حد سواء، إضافة إلى القوة التوحيدية التي تميزهما.
وفي الموجات الاحدث للنغم الغربي المعاصر، نجد الظاهرة الغنائية الاميركية الجديدة "ليدي غاغا" التي تجمع بين موهبتها في كتابة الاغنيات وادائها والظهور الغرائبي على المسرح عبر الملابس والرقصات والديكورات العجيبة الفوضوية. بينما تستمر مهرجانات موسيقى الجاز في اميركا واوروبا في انفتاحها على تجارب موسيقية من شعوب اخرى، بحيث من النادر ان تبدو الحان الجاز دالة على هوية اصحابها حتى وان كانوا اميركيين او اوروبيين، لفرط تداخلها مع الحان وانغام موسيقيين من قارات وشعوب اخرى. وبينما شهدت بولندا احتفالات على مدار العام بالذكرى المئوية الثانية لموسيقارها شوبان شهدت عواصم عدة في العالم، ومنها كما اسلفنا عواصم عربية، تظاهرات موسيقية احتفالا باعمال ذلك الموسيقار المرهف الحس والجميل النغم. والى جانب الموسيقى الكلاسيكية تظل مؤثرة في حضورها تلك الاعمال الموسيقية التي تنطوي تحت شكل "موسيقى العصر الحديث" او "نيو ايج ميوزيك" وكان ان حضر هذا العام احد ابرز اسمائها وهو الفرنسي جان ميشيل جار الى بيروت لتقديم عرض موسيقي اخر لكنه لم يكل بمثل تلك الضخامة والابهار والمتعة كما في عرضه المعروف عربيا عند الاهرامات مع بدء الالفية الجديدة. وموسيقى العالم الحديثة ليست حفلات ومهرجانات بل موسيقى في الافلام، في البرامج التلفزيونية، في الاعلانات، في رنين اجهزة الهاتف، في اماكن العمل، وفي الطرق العامة بل في كل مكان، ومن هنا كانت اشارتنا في عنوان هذه المراجعة، الى ان العالم بات وكأنه ينام ويصحو على الانغام.
* مراجعة نقدية لنتاج الانغام في العام 2010 بتكليف من رئيس المجمع العربي للموسيقى الراحلة د رتيبة الحفني. |