بعد عصر المطربين الكبار في الغناء العربي، خفت شكل "غناء القصيدة" لما بتطلبه من مهارات خاصة، اكانت في الالحان أم في الاداء الصوتي واجادته نطقا سليما للعربية الفصيحة، وفهما لاشكال الادغام والافصاح في نطق مخارج الحروف. وليس غريبا ان يرتبط تدني الغناء العربي مع غياب شكل "غناء القصيدة" ما للاخير من حضور للرفعة ودلالة على غناء متقن الاتبط بالطرب العربي، وبافضل ماسجله الموروث الغنائي العربي. ومنذ نهاية سبعينات القرن الماضي حتى منتصف تسعيناته، غاب "غناء القصيدة" تقريبا، ليعود عبر محاولة جديدة لاحيائه عبر اغنيات كاظم الساهر التي بدات منذ غنائه قصيدة "خيرتك" للراحل نزار قباني عام 1994 وصولا الى مجموعة قصائد القباني تضمنها شريط "حبيبتي والمطر عام 1999 ومرورا برائعة "انا وليلى" القصيدة التي كتبها حسن المرواني، وهو شاعر عراقي ترك القصيدة مبكرا رغم اجادته لقالبها الكلاسيكي المتقن. وبعد ان اعلى الساهر شان هذا الشكل رغم مؤخذات يسجلها بعض المهتصين على طريقة تلحين الساهر وادائه لغناء القصيدة، اصبحت ظاهرة العودة الى غناء القصيدة ملموسة وواضحة، وتدافع عدد من مغني الموجة السائدة الى غناء القصيدة ليس احترابا لهذا الشكل الرصين، ولكن للنيل بعض النجاح الذي ناله الساهر!. ومن اجل الانفتاح على هذا الملمح وتوسيعه ليصبح معلما راسخا عند الاجيال الجديدة في الغناء العربي، تعلن مهرجانات ومؤتمرات للموسيقى العربية عن تخصيص مسابقات لـ"غناء القصيدة". وارتبطت مستويات الاداء للقصائد، باكثر مراحل فن "غناء القصيدة" قوة ورصانة، فكانت القصيدة "افديه ان حفظ الهوى" للشيخ ابو العلا محمد تشكل علامة في هذا الشكل الغنائي الذي كان يعرف عند العرب القدامي وتحديدا في الاندلس بـ"الغناء المتقن". مثلما كانت قصيدة "اراك عصي الدمع" لعبده الحامولي احدى عيون القصائد المغناة التي ابدعتها كوكب الشرق ام كلثوم. اما الملحنون الذين اشتهروا بتلحين القصائد الكلاسيكية والحديثة كالاخوين رحباني والسنباطي وعبد الوهاب وفريد الاطرش، فقد خصصوا جزءا ليس بالكبير من انتاجهم لتلحين القصائد. ولا يجانب الصواب من يقول ان "ظاهرة" نزار قباني ترسخت "جماهيرياً" بفضل اجنحة الغناء التي حلقت به بين ثنايا العاشقين على امتداد الارض العربية، فالاغنيات التي اعتمدت قصائد قباني، وبدأت منذ الستينيات مع اغنية "ايظن" التي برع الراحل محمد عبد الوهاب في صياغتها لحنياً وطبعتها برقة صوتها نجاة الصغيرة، غالباً ما حملت اسم نزار قباني شاعراً، ولكن هذه المرة اعتماداً على اصوات تعمق الاحساس بموسيقى الكلمات وما تنطوي عليه من مشاعر الشجن العاطفي الندي الذي يبدو اساسياً لطائفة العشاق. نقدياً يمكن تسمية ثلاث تجارب موسيقية ناضجة تعاملت بنجاح مع شعر نزار قباني، اولها تجربة الموسيقار الراحل محمد عبد الوهاب، وثانيها تجربة الموسيقار محمد الموجي وثالثها تجربة المغني -الملحن كاظم الساهر، والى جانب هذه التجارب المحددة الملامح هناك لمسات تلحينية لموسيقيين وملحنين عرب اشتغلوا على قصيدة قباني منهم: جمال سلامة، محمد سلطان، حلمي بكر وغيرهم .
الشاعر الراحل نزار قباني مع زوجته بلقيس
في تجربة محمد عبد الوهاب على شعر قباني، برزت بالذات في اغنيات "ايظن" و"متى ستعرف" و"اسألك الرحيلا" بصوت نجاة الصغيرة، ميول عبد الوهاب لاقامة بنية موسيقية موازية لتلك التي تتمتع بها مفردات القصائد، ولم تسلك موسيقى عبد الوهاب لخلق (ترجمة) حرفية للكلمات بالانغام، بل عبرت عنها بطريقة لافتة، واكثرت من اجل هذا الغرض في المقدمات الموسيقية والفواصل الطويلة بين مقطع الى اخر. وفي تجربة الموسيقار محمد الموجي على شعر نزار قباني يمكننا ان نلمح اصالة الموسيقى وحداثتها في آن، وهي ان ارتبطت باسم الراحل عبد الحليم حافظ وعبر اغنيتي "رسالة من تحت الماء" و"قارئة الفنجان" الا انها بدت وكأنها جاءت مختلفة عن قالب تلحين القصيدة العربية المعروف الذي يتصل بالتطريب الشرقي، فمالت الى تعبيرية مختلفة عن ذلك القالب. واذا كانت حساسية عبد الوهاب والموجي في تلحين شعر قباني تحمل اشارات عصرهما، فان حساسية جديدة اكتسبتها هذه العملية (التلحين الموسيقي لشعر قباني) مع تجربة كاظم الساهر، الذي ظهر ميالاً لشكل الطرب وبنيته الموسيقية في الوقت نفسه، كسر الايقاع الرتيب لشكل لحن القصيدة وجعله يتسع لبعض التلوينات الايقاعية الجديدة، السريعة والراقصة احياناً التي بدت تماشي احساساً دمغ متلقي الغناء العربي في التسعينيات. ومن التجارب الغنائية التي امكن للسامع العربي ان يقضي برفقتها وطرا لطيفاً مع قباني، هي تجربة الفنان د. جمال سلامية عبر لحنيه لاغنيتين طبعتهما ماجدة الرومي بادائها الانيق: "كلمات" و"بيروت يا ست الدنيا" والتشكيل الدرامي في موسيقى (سلامة) لم يكن مناسباً لطواعية في شعر نزار قباني، بل جاءت الاغنيتان حادثان في شكلهما الذي اثقل نبضاً ناعماً في (شعريتهما). الى ذلك تبدو تجربة حلمي بكر في قصيدة "اغضب" التي غنتها اصالة وتجربة محمد سلطان في قصيدة "رسالة من امرأة مجهولة" التي غنتها فايزة احمد، اقرب الى المرافقة الموسيقية لكلام موسيقي وملحن من اساسه.
اليوم ليس بالضرورة ان يكون غناء القصيدة مدخلا مضمونا للرصانة، فثمة من يرى ان "الغناء يجب ان يتحلى بنوع من البساطة، وجرعة الشعر التي تحتوي عليها الاغنية يجب الا تتجاوز قدرة المستمعين على الاستيعاب واستعدادهم للتفاعل.. فمستمعو الغناء يحبون الاستماع الى كلمات تشبههم، وهذا يتوفر في الكلمة الغنائية اكثر من القصيدة" وهذا راي صحيح، فثمة اغنيات تبدو غاية في الرقة والعذوبة والرصانة النغمية ايضا دون ان يكون شكلها بالضرورة متصلا بشكل "القصيدة المغناة" وهنا يبدو مثال السيدة فيروز مجسدا لهذا المعنى، مثلما يبدو العصر في اجوائه المأزومة نفسيا وذوقيا وثقافيا اقرب الى جعل الاغنية باللهجات الدارجة من اغنيات القصائد التي تتطلب مزاجا مسترخيا ومداخل في التلقي الثقافي لم تعد قائمة ومتيسرة عند جمهرة المستمعين.
* نشر في صحيفة "الغد" الاردنية العام 2011 |