علي عبدالأمير* توفر المكتبة الموسيقية، فرصة التامل الذي تاتي به الاعمال الموسيقية المختلفة المبهرة. هكذا أفهم دور المكتبة الموسيقية في حياة أي مثقف، والتي اهملت -للاسف-، بل عدّها البعض نوعاً من الترف! على أي حال، وسط تقاطع مفهوم شخصي مع خصوصية راكدة في التعامل مع هذا الجانب عند الآخرين، نقرأ صفحات للابداع الموسيقي العالي المفردات والذي يضيء جوانب من التجربة الروحية، تلك التي تعنى بالاحتفال بالعمق الانساني بخاصة.
الموسيقى التعبيرية: من المجرد إلى المثال الارضي ومن صفحات التأليف المعاصر وحسب تقنيات (الموسيقى الالكترونية)، نتطلع هذه المرة في واحدة من نماذج التاليف المكتوبة باحساس تعبيري كبير، وهذا النهج نجده في عصرنا الحالي، أمام آفاق رحبة، وتمتزج جدواه بالضرورة الحياتية والفكر المتداول، الذي نقل التجريد صوب التجربة في كل المجالات دون أن يفقد توهجه، فالحداثة في المشروع الثقافي تفقد قنوات توصيلها حينما لا تتصاعد مفاهيمها في كل مجالات بحثها الحياتي، وتتشابك في كل الأنشطة لتنهض معا برقي التجربة، مستمدة قوة الجوهر في الفكر. والتعبير الموسيقي وجد لمشاغله تلك، قنوات ايصاله، واستفاد المؤلف من تقنية عالية في وسائله، وأبعد عن ذهنه، تقليدية مريرة، مؤداها ان "الابداع الآلي التقني ضد الابداع الفكري والجمالي المجرد". فوضع لوحة كبيرة من المفاتيح طوع اصابعه، واطلق منها افاق النغم والعذوبة الروحية.
غلاف الاسطوانة
فضاء للعصور وفي زاوية من مكتبة موسيقية، أراقب نموها بحنان بالغ، تطلعت لاسطوانة منسية يعود تاريخ تأليفها للعام 1977، وكنت تذكرت كيف انني اقتنيتها من خلال عملي في محل تسجيلات "صوت الفن"* الشهير بمنطقة الباب الشرقي في بغداد 1978، وكيف كانت تجذب السامعين من المارة حين كنت اختار مقاطع منها، متعمدا رفع الصوت كي يشاركني العابرون متعتي الباذخة، ليدخل كثيرون، انطلاقا من التأثير الذي كانت تتركه عليهم الأنغام الغريبة تلك، ويطلبون اقتناءها على الرغم من السعر المرتفع للشريط الذي كان صاحب المحل يحدده لاسيما إذا كان منقولا من اسطوانة نادرة. وراق لي تعبير فني تميز به غلافها، حيث حيوان بدائي كان يتدلى من على سلم كهربائي! والذي ينتهي بدوره لفضاء فسيح ولا نهائي، وهاهي كلمات العنوان تنبيء بشيء متميز: "مواجهات من كل نوع"، والمؤلف يمضي لقراءة تارخ الانسان على الارض، عبر تقطيع منحه "ميكو موناردو"، تسميات تستمد ايحاءها من اختبار سنوات من ذلك التاريخ. لنبدأ بالمقطع الاول حيث ستأخذنا "ماكينة الزمن" الاسطوؤية الى البداية:
(1،348،264 ق.م)، وهناك سننقب عاليا في عش إفعوان طائر، ويأخذنا النغم إلى كائنات تسبح في فضاء بكر، والأصداء تؤكد البدائية الموحشة، وعبر ايقاع واحد هو ايقاع الزمن المتجدد لا غير، ننتقل إلى تعبيرية أخرى لتاريخ أقرب (45ق.م) حمل اشارة لطقوس الليالي الرومانية، حيث ساحة لصراع بطولي غير متكافيء بين انسان وأسد، صورة طالما قرأنا عن بعض ملامحها، كما حاولت الشاشة الكبيرة تجسيدها مراراً، وتلك لمسة تتسع، لتضعنا في فسحة مجهول ساحر. ومن انسجام طبيعي كهذا وهتاف للمشاعر الكونية، نمضي إلى أزمات أرضية كبرى، تلك التي طبعت تاريخ الانسان على الأرض لاحقا، ففي المقطع الاخير من وجه الاسطوانة الأول، نقرأ "سرج ساخن" ومن ثم نستمع لإيقاع احتفالي وصيحات (السكان الأصليين لأميركا) التقليدية، فهاهو عام (1881.ب،م) يشهد مجزرة صارت ممرا دمويا لحضارة! ووسط تلك الصيحات كان الغرب الامريكي يشهد تقدم (الأبيض) نحوه، مسلحا بوسائله التدميرية الفائقة التأثير، وتبدأ لعلعة الرصاص وتختنق صيحات الاحتفال الخاص بالسكان الأصليين، وتمضي الايقاعات في اندفاعها لتشهد خفوت الصوت البشري وثمة إطلاقة أخيرة ارتسمت لوحدها في فضاء كلي الصمت. من نداء المجهول إلى إيقاع المدينة المجنون الاسطوانة في وجهها الثاني، عنت بتفاصيل مشهد اكثر قربا لوقتنا. فمن مجاهل الغموض ونداء المجهول إلى أحدث معاصرة وتاريخ تطور، فهناك (شيكاغو) مدينة العشرينات التي تغص بفوضى العصابات ودمويتها وحاناتها التي تتسع ايضا لأغنيات الحزانى الجميلة أيضاً، والمدهش في هذا المقطع، هو الاستخدام التوليفي لنص موسيقي قديم يحمل تاريخ (1926) وضعه المؤلف دون تغيير أولا، ومن ذلك الصوت الشاحب للمغني، تدخل الأنغام المعاصرة وتؤلف زمنها الخاص، ضمن ذات التعبير الذي تقوله الاغنية القديمة. ومن عرضنا المجرد الى اشارة نقدية، فيبدو أن سحر الاكتشاف والخوض في مجاهل الغموض وعبر أزمان سحيقة القدم جعل المؤلف وسط موضوع غني بالرؤى والافكار والتي لم تكن متوقدة بذات الطريقة حين تعامل مع زمن معاصر! فاغلب المقاطع لم تكن بذات الايحاء القوي الذي عرفناه بدءا، كما هي الرموز ايضا لم تحمل كثافة كالتي سبقتها، غير ان النهاية تبدو معقولة حيث قوة انفعال عثرنا عليها مع آخر دورات الاسطوانة، فالمؤلف يقول: انه ومن على شرفة زجاجية لأعلى طابق في عمارة بمدينة نيويورك كان يتأمل صخب تلك الأزمان ومواجهاتها المتنوعة، وهاهي "ماكنة الزمن" الاسطورية تقترب بأضوائها المشرقة، وتهتف له "سحر الفضاءات"، في ذات الوقت الذي كانت فيه أصوات المدينة تتصاعد وتصل لشرفته العالية ويتواجه مع النداءات.
الايقاع وقوة المعنى كان العمل مبنيا على تأكيد المعنى الانساني، فالايقاع واحد يمتد من العصور البدائية حتى عام 1979.. وذلك بالطبع لن يكون غير ايقاع الحياة وجذوة الانسان المتقدمة التي تغير وتنشيء. وتعبير كهذا في الموسيقى وعلى هذه الدرجة من العمق، منح العمل ميزةً بين نماذج التاليف الموسيقي المعاصر. وهكذا فهي تزداد غنى وعمقاً بذات الوقت الذي تستفيد فيه من افاق تفتحها الوسائل التقنية المتطورة، لا سيما أن الموسيقى التعبيرية عموما تشهد في عصرنا الراهن أجمل أوقاتها.
*مجلة "فنون" البغدادية 1985 |