تاريخ مختلف لبغداد (1): موسيقيو المدينة الشبان حين يهربون من حروبها وحصاراتها

تاريخ النشر       11/03/2014 06:00 AM


عمّان- علي عبد الامير*
ليست الهجرة حكراً علي فئة معينة من فئات المجتمع العراقي. فالسعي الي مغادرة البلاد الي مناطق آمنة توفر حياة باتت عسيرة في الوطن الذي صار نهباً لأزمات الحروب والحصارات لازم موسيقيي العراق ومغنيه الشبان.
في العاصمة الأردنية التي صارت نافذة العراقيين علي العالم، يمكن تشكيل اوركسترا موسيقية من عازفين علي مختلف الآلات، مثلما يمكن التعرف علي مجموعات صغيرة تعني بالموروث الموسيقي العراقي، وأخري تذهب الي مغامرة التجديد فتعرض ألواناً موسيقية عراقية ضمن اشكال موسيقي الجاز الأميركية أو حتي موسيقي الروك. مثلما نجد مطربين يغنون في ليالي عمان كل الأشكال بدءاً من المقام العراقي وصولاً الي رومانسية غناء فرانك سيناترا!
رحلات في المجهول
هؤلاء الموسيقيون الشبان يحلمون بالهجرة، ومنهم من هاجر فعلاً، وآخرون أكملوا الاستعدادات في ملف اللجوء. ومن بين من غادر عمان أخيراً المطرب اسماعيل الفروجي الذي عرفه العراقيون جيداً في العقد الماضي عبر اغنيات عاطفية رقيقة مثل "شي ما يشبه شي" و "يا جرح"، حمل صوته الدافئ الي صقيع كندا ليبدأ من هناك رحلة مجهولة، غير ان الوطن سيظل يلاحقه لا من خلال المعجبين بصوته من المنفيين والمهاجرين العراقيين في كندا، بل من خلال ساقه المقطوعة التي ظلت مؤشراً علي محنة المطرب العاطفي في ساحة المعركة، حيث كان الفروجي اصيب بقذيفة في حرب الخليج 1991.
المطرب الشاب سيف شاهين المأسور بأسلوب عزف دافيد غيلمر (أحد اعضاء فريق الروك الشهير بنك فلويد وعازف الغيتار الكهربائي فيه) سعيد بنجاح شريطه الغنائي الثاني حتي هي وباتت أغنياته المصورة تبث في غير فضائية عربية. وأسلوبه الغنائي والتلحيني يتضمن مغامرة من نوع خاص: نقل المعاناة الإنسانية العراقية في كلام دارج مغني ضمن ألحان لا تبتعد كثيراً من موسيقي الروك. سيف شاهين يستعد للهجرة الي كندا ايضاً وأحلام التعبير عن أزمة الشباب العراقي في أشكال حرة ترافقه املاً في أن يجد المؤازرة علي وضع عمل موسيقي يختصر سنوات عذابه التي لم تكن إلا شبيهة بسنوات عذاب ملايين من شبان العراق.
عازف البيانو ترافليان ساكو الذي قضي أكثر من سبع سنوات في العاصمة الأردنية وتتلمذ علي يديه مئات من محبي الآلة الموسيقية الرقيقة وتدرب بحسب معرفته وموهبته الكثير من عازفي البيانو في الأردن وأشهرهم العازف خالد أسعد. وصل قبل فترة الي مدينة فانكوفر في أقصي الغرب الكندي وبدأ عملاً جاداً علي وضع مؤلفاته حيز التنفيذ، تلك التي قاربت روح بغداد أو التي حاولت ان تقيم مقاربة جديدة للموروث النغمي العراقي حين احيا اكثر من حفل موسيقي في عمان قبل هجرته وزاوج بين البيانو وآلتي القانون والجوزة العراقية التي تعتبر أساسية في الفرقة الموسيقية المؤدية لألحان المقام العراقي .
وإذا كانت الفرقة المصاحبة للمغني والموسيقي العراقي المعروف إلهام المدفعي تضم مواهب موسيقية عراقية شابة، فإن من أبرز تلك المواهب عازف الغيتار الكلاسيكي روبرت الذي غادر العاصمة الأردنية قبل فترة مقيماً في سويسرا فيما ظلت مؤثرة محاولته الجريئة في إقامة جلسة موسيقية تضم آلته الغربية والقانون والجوزة وإيقاعات الكونغا والغيتار الكهربائي يمكن من خلالها تقديم الموروث النغمي العراقي وفق أشكال ليست بعيدة من روح موسيقي الفلامنكو الإسبانية.
"هيفي ميتال" بغدادي!
وفي حين عرف عصام الحكيم مؤلفاً للكثير من القطع والأعمال الموسيقية الناجحة من بينها الموسيقي والمؤثرات المصاحبة للعرض الافتتاحي في مهرجان بابل 1992 و "بغداد حبيبتي" التي عزفتها الفرقة السيمفونية الوطنية العراقية، كان أقدم في بغداد علي مغامرة من نوع آخر حين وضع ألحان أغنيات "هيفي ميتل روك" بصحبة أعضاء فريق حمل اسم "سكير كرو" ويقتدمه المغني وعازف الغيتار بيرج مايكل.

عصام الحكيم في حفل لفريق "سكير كرو" ببغداد
 
ولأنهم شكلوا ظاهرة في غير أوانها وأقدمت السلطات العراقية علي تفريق آخر حفل لها في بغداد عام 1994 بعد اغنيات تحريضية من نوع "جنة الشيطان"، توزع اعضاء هذا الفريق بين عمان وعواصم اوروبية عدة. غير ان أنغامهم الغاضبة وقمصانهم السود وكلمات الرفض:
انهم يريدون السيطرة عليك
يريدون اطلاق النار عليك
يريدون ضربك وإرسالك الي السماء
احتفظ بإيمانك
لا تكن ضعيفاً في دفاعك
ضع محاولات العدو في احتوائك .

بيرج مايكل في مغامرته المدهشة: "هيفي ميتال" بغدادي
 
جعلت من حضورهم لافتاً وحملت جرأة غير عادية أكان ذلك في شكل اغنياتهم ام في مضمونها.
شيراك وآرمين ميناس من بين عازفي الفريق "سكير كرو" تركا العراق واشتركا قبل اكثر من عام في تجربة لافتة جمعت ايقاعات الروك والموروث الغنائي العراقي وإيقاعات البحر الكاريبي غير ان تلك التجربة ظلت شهقة يائسة قبل ان يتحولا الي مكان بعيد لن يعبأ بمعني الموروث الغنائي والموسيقي العراقي، لاسيما وأنهما سيفتقدان التحريض الوطني الذي يوفره وجود عازف القانون والمؤلف فرات حسين قدوري الي جانب المجموعة التي تضمهما.
وعازف القانون قدوري الذي يحرص علي استحضار الأثر الذي طبعه بقوة والده الموسيقي والباحث في الموروث النغمي العراقي وصاحب الإنجاز البارز في أغنية الطفل، الفنان حسين قدوري، جرب الهجرة وحاول ان يجد ذاته في بلجيكا غير ان مثل هذا السعي لم يتأكد ليعود فرات الي الأردن محتضناً انغامه العراقية والعربية وساعياً الي تأكيد نجاحه الذي برز في أسطوانة قانون ما بين النهرين .
ومن بين أبرز المهاجرين من موسيقيي العراق الشبان عازف العود البارز عمر منير بشير الذي يمتد عميقاً الي مدرسة والده الفنان الشهير الراحل منير بشير في عزف علي الآلة العربية قارب الإتقان والابتكار في آن. وإذا كانت بودابست تحتضن عمر فإنه يتردد علي بيروت والرباط وتونس مبتكراً من الألحان ما هو رصين وعميق ويدل علي الأثر الغني للراحل بشير والذي جاء عبر اكثر من عمل ناجح ضمته أسطوانة من الفرات الي الدانوب .
وخلال العقد الماضي كان اسم الفنان رائد جورج من بين أبرز الملحنين والمغنين الشبان في العراق، وتكفي أغنيته "لا ترحلين" اذ كانت واحدة من افضل عشر اغنيات عراقية في السنوات الماضية. فهي انطوت علي بناء موسيقي متين صاغته موهبة جورج الذي غادر العراق الي أميركا قبل نحو سنتين، فخسرت الموسيقي العراقية برحيله (يعيش في ديترويت باميركا)تجربة متمايزة حققت حضوراً حتي علي المستوي العربي حين فازت الموسيقي التصويرية لرائد جورج في مهرجان القاهرة للإذاعة والتلفزيون بجائزة أفضل موسيقي تصويرية في عمل درامي عام 1998. كما ان موسيقاه التصويرية لمسرحية "الإنسان الطيب" للمخرج المعروف عوني كرومي جعلته اصغر مؤلف موسيقي عراقي وذلك أواسط الثمانينات.
 
 
* نشرت في صحيفة "الحياة" بعنوان :حملت أعمالهم بعضاً من تاريخ بلدهم وعنفه ... . موسيقيون من العراق دمجوا موسيقاه بالروك ... وهربوا".  10-4-2001
 
* جزء من كتاب بعنوان " الانغام... تاريخ مختلف لبغداد"


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM