صحيح ان الفيلم الذي اخرجه الايطالي الشهير برناردو برتولوتشي، هو ابن لحظته بامتياز (البوهيمية الثقافية والفكرية في الغرب واوروبا بخاصة او ما عرف بالثورة الجنسية)، فهو يجمع ارمل وسيماً وشابة مخطوبة لاهية "تجمعهما الاقدار قررا ان يكونا مجهولان الهوية والاسم في الشقة المهجورة التي اتخذاها مركزا لهما لأشباع رغبتهما منقطعين عن العالم الخارجي، يمارسان العلاقة الجنسية مصحوبة بالعنف الذي يتجلى واضحا في حوارهما بعد اقامة العلاقة"، لكنه ظل كما فضائه المكاني المنعزل، ضيقا في مقاربة الجنس، حين جعله سلوكا نفسيا شديد التعقيد، بعيدا عن مشاعر طبيعية ليست بالضرورة رومانسية، فظل الجنس فيه مرتبطا بالعنف وتحديدا عند الرجل الذي يمثل السلطة والتحكم، وعند المرأة التي تمثل اللامسؤولية والخضوع ولاحقا الانتقام بعد قتل العشيق الغريب المجهول الاسم المهووس بالجنس.
مهما قيل في الفيلم ومهما برع مخرجه بيرتولوشي في اضفاء الشاعرية عليه "حلمت يوما بأمراة فاتنة الجمال مجهولة الاسم تمشي في الشارع حرة طليقة"، الا انه وبرغم الاداء الاستثنائي لبراندو وشنايدر، يظل فيلما عاديا لكنه يبدو مخلصا لفترته البويهمية: الثورة الجنسية ومخدرات "أل أس دي".
أم كلثوم تغني "ليلة حب" وعبد الحليم حافظ يبدع "يا مالكا قلبي"
عاشت الاغنية العربية وتحديدا المصرية، في العام 1973، أكثر من ملمح، فالسيدة ام كلثوم غنت " ليلة حب" كسيدة عاشقة حقيقية عبر نص يرتقي بمشاعر الحب الى حد النشوة، كتبه الشاعر احمد شفيق كامل، ولحن جعل "كوكب الشرق" تبدو عاشقة وقد اخذها الجذل في مشاعرها، ابدعه محمد عبد الوهاب، واظهر فيه مهارات على الانتقال من مستويات الطرب العميق الى خفة الانغام وطراوتها، في تجديد واضح لصورة المطربة المستغرقة في رصانة ثقيلة.
وفي العام العجيب ذاته، غنى الرقيق عبد الحليم حافظ قصيدة للشاعر الأمير عبدالله الفيصل هي " يا مالكاً قلبي"، وأدّاها بعذوبة متناهية عبر لحن الموسيقار محمد الموجي الذي استعاره من قالب الموشح المعروف بكلاسيكيته. ومثلما طبع "العندليب الاسمر" بروحيته، ذلك العمل الغنائي المتقن، فانه في حفلة عيد الربيع او "شم النسيم" غنى صحبة نص الشاعر الغنائي حسين السيد ولحن "موسيقار الاجيال" حقا، عبد الوهاب، أغنية "فاتت جنبنا"، التي بدت كبيرة في لحنها وبسيطة حد التواضع في مضمونها الذي قابله جمهور بدأ يتشكل بكثير من الحفاوة.
ذلك الجمهور الذي "بدأ يتشكل" سيتحول لاحقا ليس عن ام كلثوم وحسب، بل عن عبدالحليم حافظ حتى في اغنياته "الخفيفة" ففي العام 1973، قدم مغني الحواري الشعبية، احمد عدوية "سلامتها أم حسن" لتصبح أول أغنية لتيار من السذاجة الوجدانية وتهافت الذوق، لكنه تيار شعبي حتى وان ظل ممنوعا من البث عبر وسائل الاعلام الرسمية، فالاغنية الاولى لعدوية الذي عمل طبالا للراقصات في ملهى "كازينو الليل" بالقاهرة ثم مع صاحبة الملهى المغنية شريفة فاضل، حققت نجاحا جماهيرياً كبيرا اذ وصل توزيعها عبر اشرطة الكاسيت إلى مليون نسخة.
في الموسيقى الغربية المعاصرة: أكثر من صورة شباب فوضوي
دلني المغني البريطاني التون جون، في العام 1973، وتحديدا في اسطوانته " Goodbye Yellow Brick Road" ثم في العام ذاته، مواطنه المغني كليف ريتشارد في" Power To All Our Friends" ، والاميركية السمراء ديانا روس في " Touch Me In The Morning"، والاميركي الاعمى، ستيفي ووندر عبر You Are The Sunshine Of My Life وهو الذي بت قريبا اليه عبر العديد من المقالات التي كتبته عن فنه الغنائي الجميل طوال ثلاثة عقود، ثم الاسطوانة الاكثر تأثيرا في فهمي الشخصي لقيمة الموسيقى الغربية المعاصرة، اسطوانة فريق الروك الشهير بنك فلويد " The Dark side of the Moon "، وهي اعمال حطمت الصورة التقليدية السائدة عراقيا عن الموسيقى الغربية المعاصرة، بوصفها ايقاعات يرقص عليها مجموعة من الشباب اللاهي. لتنتقل الى مستوى فكري عميق لم اتوقع انني ساجده فيها، فثمة تلك الايام الانغام الاحتجاجية على الحرب الاميركية في فيتنام، وثمة الرفض الواسع للرأسمالية واحتقارها الانسان، ضمن افق من الحرية بدأت مع جيلي تلك الايام، اواظب على الدخول اليه، الا وهو ان الحرية ممكنة في حدود ما عبر الانظمة الديمقراطية الغربية، وهو ما لم يكن متوافرا على نحو مقابل في انظمة تتدعي الحرية لكنها تناهضها بقوة، وهو ما كان يتعمق في دول المعسكر الاشتراكي، وبخاصة ضد الادباء والفنانين الرافضين انماط القطيع الثقافي وسيطرة الدولة على العقول والمشاعر.
أي ملامح ثقافية للعام 1973؟
عبر حلقات سبع، قدمت هنا ما يبدو توثيقا لعام عاصف في احداثه العراقية والعربية والدولية، ولكن لسعة هذا الامر، ولصعوبة ملاحقة تلك الاحداث بالتفصيل، رسمت صورة للعام الرهيب كما اسميته، من منظور ثقافي، لا اجد غضاضة في انه متصل بمفهوم "النقد الثقافي" الذي تعرفنا على اطروحته وتطبيقاته في السنوات العشر الاخيرة من القرن الماضي، مثلما لا اجد غضاضة في الاشارة الى انه قد يبدو تأريخا شخصيا، على الاقل في منظور الاحداث والمراجعة النقدية لها، غير انه على ما احسب سيظل مدخلا جديدا لقراءة الثقافي والسياسي والاجتماعي من خلال عام دون غيره.
الحلقة الاخيرة من سلسلة مقالات في "العالم" البغدادية