في عيد الميلاد المجيد، يكون عشاق صوت وإسلوب غناء المطرب عبد الحليم حافظ على موعد مع اغنية من طراز نادر، هي "المسيح" التي كتب كلماتها الشاعر عبد الرحمن الابنودي ولحنها باقتدار الموسيقار الراحل بليغ حمدي.
واللافت في هذه الاغنية، انها تكاد تختصر ملامح الغناء عند عبد الحليم حافظ، و"الرسالة" التي تتضمنها سيرته الغنائية، فهي بقدر ما يمكن أن تكون أغنية "عاطفية" لفرط الشجن والتعبير الراقي في كلماتها ولحنها والاداء العاطفي لعبد الحليم فيها، بقدر ما يمكن أن تكون أغنية "وطنية"، فهي أغنية عن "القدس" الفكرة والرمز والمعنى، إذ تختصر معنى الوجود الفلسطيني والعربي في هذه البقعة المقدسة من الارض. من خلال أغنية "المسيح" يتابع الثلاثي: الابنودي/ حمدي/ حافظ فكرة التضحية عبر "درب الالام" الذي مشاه يسوع وصولاً الى درب آلام معاصر، يمشيه الشعب الفلسطيني مدافعاً عن وجوده. والأغنية تظهر نموذجاً ليس من السهولة التعرف عليه في الغناء العربي، فهو يرقى بالتعبير عن "القضايا العامة" الى شغف وتصوير رقيق تعذو فيه محسوسة وحميمة كأنها "قضايا شخصية"، وتتخلص فيه "القضايا الوطنية" من الحماسة الفجة والمديح الفارغ، وتصبح النداءات موجهة للانسان، للأرض وبطريقة أقرب الى البوح العاطفي طالما انها تأتي بصوت مطرب لطالما إرتبط صوته باجمل آيات التعبير عن العاطفة في الغناء العربي المعاصر. واغنية "المسيح" غناها عبد الحليم حافظ مرة واحدة فقط العام 1967 في قاعة "رويال ألبرت هول" بلندن، ولم يغنها مرة أخرى أكان ذلك في حفلاته أم على اسطواناته. وقيل ان تهديدات كانت أجهزة إسرائيلية قد وجهتها لعبد الحليم حافظ "تحذره" من تقديم الأغنية لما تحمله من شحنة تحريض وجدانية مكثفة تكشف عن رفض يتصاعد منها لكل ما من شأنه تثبيت "حقائق" العدوانية الاسرائيلة على الارض. ورغم ان مقربين من عبد الحليم نفوا قبل عامين مثل هذه الإشارات، وذكروا ان أسباباً فنية بحتة حالت دون تقديم الأغنية، الا أن اغنية "المسيح" تظل وبلا جدال واحدة من علامات الغناء الرفيع، لا في تجربة عبد الحليم حافظ حسب بل في عموم الغناء العربي المعاصر. كما إنها تدل على حساسية مختلفة أرسى دعائمها، موسيقياً ملحنون بارعون مثل بليغ حمدي، وشعراء اغنية يهدفون الى إستنهاض التعبير الانساني عن قضايا عامة، لطالما ارتبطت في الفهم الجماعي بالحماسة التقليدية، كما فعل عبد الرحمن الابنودي وقبله الشاعر البارز صلاح جاهين الذي قدم نماذج رفيعة لعبد الحليم حافظ مثل أغنية "صورة" التي جسدت لحظة حاسمة من تاريخ مصر - جمال عبد الناصر وتاريخ حركة "التحرر"العربية . كما ان أغنية "المسيح" تكاد تختصر سيرة عبد الحليم حافظ وجيله، حين أخلص حد الغناء لقضايا كانت موجهاتها الاساسية (غير حقيقية)، ففي الوقت الذي كان فيه عبد الحليم حافظ يتوحد مع القضية التي تتضمنها أغنيته، كان هناك من يتاجر بـ"القضية" وتغدو النداءات المجروحة مقارنة بها، أشبه بمن يكتشف خديعته لاحقاً، لكن مع كل هذا، تظل أغنية "المسيح"، إستذكارا طيبا وجميلا لاحد رموزنا العاطفية: الراحل الكبير عبد الحليم حافظ.
|