يرى كثير من الباحثين في تاريخ الموسيقى العراقية المعاصرة، ان الاغنية البغدادية نتاج طبيعي للمقام العراقي، ولكن مثل هذا الرأي(1)، وان بدا منسجما مع امثلة اكدتها تجارب الاب المجدد لفنون المقام العراقي، ولاحقا الاغنية البغدادية، محمد القبانجي وتلميذه النجيب، ناظم الغزالي، الا انه لا يستقيم مع حالات، كانت فيها ملامح الاغنية البغدادية قد عبرت حدود المقام العراقي نحو آفاق تعبيرية وتصويرية تنتمي لعصرها، وإن كانت مخلصة لبيئتها المحلية (المدينية)، فثمة المفردات الخاصة بالمحكية البغدادية، وثمة الجرأة في التعبير عن مشاعر الافتتان بالجمال، فضلا عن الاتصال بالانغام المعاصرة: العربية (المصرية) والغربية (الاوروبية واللاتينية)، ناهيك عن الاتصال مع الشرق (ايران وتركيا) وهو ما كان رسّخه المقام العراقي.
وفي سياق الامتداد الذي شكله المطرب ناظم الغزالي لاستاذه القبانجي، يرى مؤدي المقام والباحث حسين الاعظمي "إستقى الغزالي مميزات أسلوبه الادائي للمقامات العراقية من سلفه محمد القبانجي الذي كان مسيطراً سيطرة مطلقة على الساحة الغنائية في العراق طيلة النصف الاول من القرن العشرين، واطلع بإمعان على الطريقة القبانجية في الاداء، واستمع الى مقاماته التي أداها إبان سفره الى المانيا لصالح الشركات الفنية الاجنبية أواخر العشرينات، ومشاركته في المؤتمر الاول للموسيقى العربية بالقاهرة 1932، وهي بلا شك مقامات سجلها القبانجي بصوته غاية في الروعة والدقة في الاداء" . ويربط الاعظمي، بطريقة لا تخلو من القسر، المطرب الغزالي بحدود "الاداء المقامي"، فيما كان صاحب اغنية "تصبح على خير" قد عبر الى ضفاف فسيحة من افانين الاغنية الشعبية المعاصرة الراقية. ويربطه بمستوى واحد من الاداء مع مؤدي المقام المكرسين: حسن خيوكه ويوسف عمر "ولقد رافق ظهور الغزالي على الساحة الغنائية بعض من المؤدين المبدعين في أدائهم للمقامات، وكلهم كانوا قد إستقوا أدائهم المقامي عن الطريقة القبانجية، أولهم كان حسن خيوكة، الذي سلك أسلوباً أدائياً مغايراً للاسلوب الذي نهجه الغزالي، وكذلك كان الأمر مع يوسف عمر، رغم أنهم كلهم غرفوا من ينبوع واحد. إلا أن كلاً منهم إختلف عن الآخر في أسلوبه الادائي، فالغزالي مؤدٍ إبداعي تجديدي ذو عقل فني نيّر، أما خيوكة فقد كان أداؤه، أكثر أداء متأمل عرفه المقام العراقي على مدى تاريخ مؤديه"(......).
اي علامات للغناء البغدادي مثّلها محمد عبد المحسن ؟ حين يمكن الانصات والتمعن لاغنية الملحن والمطرب الراحل محمد عبد المحسن "يا بو المشحوف تانيني"، لا يمكن الا التوقف عند انغام بنكهة المدينة، مع ان النص الغنائي، يذهب الى ابعد من الريف، بل الى الاهوار في جنوب العراق وعلامة النقل الابرز فيها: المشحوف، وهذا ما يمكن ان يضع لنا ملمحا اصيلا، في كيفية تطويع الاغنية البغدادية لكثير من الحالات التعبيرية التي تبعد عن اجواء المدنية بيئيا ونفسيا، وهي ان لم تكن قد نضجت وحققت ملامحها الخاصة ما كانت لتصل الى هذه القدرة التي تحققها اغنية من ولد العام 1928، وعاش في مناطق شعبية عدة من بغداد: محلة الشيخ عبد القادر الكيلاني، الفناهرة (القريبة من الباب الشرقي) في الرصافة، ومنطقة الشريعة في جانب الكرخ، وكانت معايشته هذه المحلات الاثر الكبير في تعميق الجانب المديني في ألحانه، لجهة التركيب والتعدد النغمي، ولكن بالانفتاح والاتصال مع العصر وانغامه وثقافته، زهز ما جعله يعبر المحلية الخانقة نحو افاق تعبيرية اوسع.
ربيع بغداد الحقيقي، حين بدأ بعد الحرب العالمية الثانية
والمثال الذي قدمه عبد المحسن في "يا بو المشحوف"، لجهة قدرة الاغنية البغدادية على تطويع البيئات الاخرى والاتصال الحي معها، يتأكد مرة اخرى في عمله على بيئة مدينة الموصل الخاصة اجتماعيا ولهجة دارجة، فثمة " طيبة يا حبايب والله طيبة" و" أشكان الدلال". وهذا العمق "المديني" في الحانه لكثير من الاصوات العراقية والعربية، وتلك التي اداها بصوته، لم يكن قد جاء الا نتيجة اتصال معمق مع: أولا: المقامات العراقية، اذ كان شغوفاً باداء محمد القبانجي، حسن خيوكه، نجم الشيخلي، رشيد، الراحل عبد الأمير الطويرجاوي الذي مزج بين الاداء المقامي والأطوار الريفية بذوق مرهف رفيع، وأداء مطربة العشرينيات وما تلاها في القرن الماضي، صديقة الملاية. ثانيا: عبر الآلتين الساحرتين تلك الايام ( النصف الاول من القرن العشرين) : الراديو، ثم الغرامفون، عرف عن قرب غنى الحان فريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب والاخوين رحباني لاحقا، فضلا عن صوتين هزا مشاعره وخياله اللحني بقوة، أم كلثوم وأسمهان، الى جانب اعجاب خاص لصوت فيروز، والذي قد يكون وراء تلك النعومة الاسرة التي تميزت بها بعض الحانه ومنها : "سلّم.. سلّم بعيونك الحلوات"، الذي اداه بصوته اولا ثم صار اكثر اقناعا في عاطفته، حين غنته المطربة أمل خضيرالتي ادت ايضا رائعته "احاول انسى حبك". ثالثا: المعرفة والتنوير الثقافي، وهو امتياز قد يكون اشترك فيه معظم من شكلوا ملامح الاغنية البغدادية، ففي مقتبل شبابه، دخل صاحب لحن "دويريتك" الذي منحه لصوت المطرب ياس خضر، معهد الفنون الجميلة ودرس الموسيقى على يد الاستاذ الشريف علي، وكذلك الفنان علي الدرويش، ثم التقى بالراحل روحي الخماش الذي اخذ بيده، وتعلم منه قراءة النوطة الموسيقية، حتى حانت فرصة اللقاء بعميد المعهد ومؤسسه، الشريف محيي الدين، الذي كان كريما معه بدروس العزف على العود فضلا عن معرفة الموسيقى بوصفها ثقافة ومنهجا تربويا ومعرفة للحياة. رابعا: اذاعة بغداد و رصانة قسمها الموسيقى، فهو دخلها منشدا في "الكورس"، كما هي حال مجايليه: خزعل مهدي، عدنان محمد صالح، حمدان الساحر، جميل جرجيس، جميل قشطة، محمود عبد الحميد، محمد نوشي، داود العاني، احمد الخليل وغيرهم.
ظهر في ربيع بغداد الحقيقي ومات مع بدء مواسم خريفها مثلما كان ربيع بغداد الحقيقي، قد بدأ بعد الحرب العالمية الثانية، اذ كانت قد انفتحت لكثير من المعارف والاداب والعلوم والفنون، كان ربيع جيل كبير من موسيقيي العراق ومطربيه ومطرباته، قد بدأ في ارجاء العاصمة التي كانت تسهر باناقة وجمال ساحر، وتغتني من اتصالها مع الثقافة الغربية المعاصرة، ومن بين ابناء ذلك الجيل من البناة والمؤسسين والرواد، كان المطرب والملحن محمد عبد المحسن، وهو لاحقا سيكون شاهدا على بدء مواسم خريفها مثلما كان شاهدا على ربيعها، ففي صبيحة الثالث والعشرين من شهر نيسان 1983، كان صاحب لحن "يا حسافة"، يهمّ بدخول مبنى الاذاعة والتلفزيون، حتى انفجرت سيارة مفخخة في هجوم ارهابي، نفذته مجموعة عراقية معارضة للحكم في بغداد، لتصيب عبد المحسن بجروح بليغة، حتى وافته المنية في اليوم التالي، في وداع لبغداد التي كانت قد اقتربت هي الاخرى من ميتات تالية، عبر حروب وقذائف و"مفخخات " كالتي قتلته، ستمتد من اوائل ثمانينات القرن الماضي حتى يومنا هذا.
|