رضا علي في احدى الحفلات الغنائية في ستينيات القرن الماضي
ويرى علي ان اغنيات قدمها مثل "سلمنّا ياريح الهاب"، و "حق العرفتونه وعرفناكم "، و" جيرانكم يا اهل الدار"، كانت تؤثر قيم المحبة وتقوية الاواصر الاجتماعية، واعتبرها متصلة بالروحية البغدادية التي صوّرها في جميع اغنياته، ويقول "انا بغدادي ولون الغناء البغدادي نابع من داخلي والكلمة الروحية البغدادية متأصلة في كياني، وقد اكتشفت بان للمفردة البغدادية وقعا خاصا ومتميزا ليس لدى العراقيين، حسب وانما لدى العرب الذين تقبلوها ببساطة شديدة، وعشقوها لما تحمله من مقدرة تعبيرية " .
الحان علي، شدت بها اصوات مطربات عربيات، فالى جانب سميرة توفيق، غنت له فائزة احمد ونرجس شوقي والمطرب فهد بلان، فضلا عن اصوات رجالية ونسوية عراقية، من بينها صوتا المطربتين عفيفة اسكندر ومائدة نزهت.
ابن مرحلة التحولات العاصفة
وعاش رضا علي، تحولات روحية وفكرية عاصفة، انعكست في اعماله الموسيقية، فثمة قصة "شاعت، ولا يمكن لنا توثيقها بدقة في هذا الكتاب، كحقيقة ثابتة"، توضح انه "قدم أغنية خاصة أهداها للملك فيصل الثاني، وكانت بمناسبة خطوبته على خطيبته التركية (فاضلة)، وهي من سلالة الامراء العثمانيين القدماء، والتي وصلت البصرة عام 1958على ظهر يخت، فغنى لها أغنية "مركب هوانا من البصرة جانا"، ولكنه هو ذاته، من غنى بعد سقوط الملكية في 14 تموز 1958، نشيدا وطنيا يقول: "يا أيها اليوم الاغر الشعب فيك قد انتصر/ الظالمون تحطموا ومضى الملوك الى سقر".
وفي العام 2000 وقبيل مغادرته العراق الى المنفى، كشف عن انهماك شخصي بتأليف الموشحات والابتهالات الدينية : " انا لم انقطع ابدا ... فقد تفرغت في الفترات الاخيرة لتلحين الابتهالات الدينية في الوقت الذي اختفت فيه هذه الالحان"، ويضيف في حديث الى صحيفة "العراق" في 17 أيار 2000، "انها الحان تمتلك خصوصية كونها نابعة من صميم قلوبنا ونفوسنا وايماننا بديننا الحنيف. لقد قدمت طوال حياتي الكثير من الالحان وتعاملت مع اوزان موسيقية متعددة، وجاء الوقت لاشبع رغبتي في تدوين الموشحات وخلق اتجاهات لحنية لتقديم نماذج جديدة من الابتهالات الدينية".
هو ليس بالتحول من صاحب اغنيات الحب والوله والشكوى من العشق، الى التقوى والورع عبر الابتهالات والتراتيل الغنائية، فعلى الارجح هو امر متعلق بثقافة سائدة عراقيا وعربيا، وقد تكون اسلاميا، فكثير ممن انشغلوا عن الدين في شبابهم، يعودون اليه في اواخر حياتهم، وهو ما يبدو متفقا حتى مما اورده الراحل في حديثه الى صحيفة "العراق" في معرض التنويه الى اعماله الاخيرة التس كانت ضمن سياق ديني وروحي.
انه من عاش الحانه وموسيقاه: "مع كل جملة لحنية عشت بنبضي واعصابي، فهناك اغنيات لا تنسى ابدا، اذكر مثلا "غنوا يا أطيار" التي لحنتها واديتها بصوتي، أصف فيها بغدادالسلام، واعتز بلحن " تفرحون افرحلكم"، الذي اداه اكثر من صوت غنائي، بينهم زهور حسين، لميعة توفيق وحميد منصور، وأذوب عشقا في اغنيتي "أدير العين ما عندي حبايب" للمطربة راوية، و "وحدك ملكت الروح" للمطربة سميرة توفيق.
وهو من غنى الحانه " حك العرفتونه وعرفناكم"، "جيرانكم ياهل الدار"، "سمر سمر"، "مركب هوانه من البصرة جانا"، "سلم لنا يا ريح الهاب"، "يا ورد الورود"، ويكفي انه رنّق فضاء الحلم العراقي باغنيات بينها "اشعندك بعد قول" و"على الميعاد" و "ابتسامة الامل" و "يابه يابه شلون عيون" التي حملته مؤديا حلوا، لالحان كانت تتفوق كثيرا على طبيعة صوته، ونمط ادائه الغنائي، ويبدو ان للراحل اسبابه الخاصة ما دفعه الى ان يبقي تلك الالحان، حكرا على صوته، فيما كانت ستغدو بتأثيرمختلف لو منحها لاصوات اخرى اعتادت التعاون معه. لكن هذا لا يبعد عن اغنياته التي اداها شخصيا، " شفافية الصوت وحنانه وبساطته في آن، حيث لا استعراض ولا ادعاء، بل بسلاسة متناهية كان يؤدي الجمل اللحنية البسيطة هي الأخرى".
وكمؤشر على تنوع ثقافي وانساني، تميز به نتاجه اللحني، فقد صاغ للفنان الريفي عبد الصاحب شراد، اغنية "عجيبة ياحلو والله عجيبة"، لكنها لم تكن، والحق يقال، "ريفية" الروح والنغم، مثلما لم تكن "مدينية" صرف، لجهة الخامة الصوتية للمطرب شراد المتصلة بهوية الغناء الريفي العراقي.
لحن أغنية أسألوه لا تسألوني, وغنتها مائدة نزهت على أثر خلاف بينها وبين زوجها وديع خوندة (سمير بغدادي) وحاول رضا علي أن يدخل طرفاً بالصلح بينهما بصفته صديقاً مقرباً لهما, ولحن لها وقتها أغنية (بيا عين جيتوا تشوفوني).
ولانه صانع ماهر للالحان، ورجل موسيقى قبل ان يكون مغنيا، فهو واضح في الانتصار لقيمة الموسيقى " اللحن هو الابقى لانه يولد كل يوم، والموسيقى بنظري كالروح للانسان".
الملحن- الممثل السينمائي
ولد رضا علي في منطقة الشواكة ببغداد عام 1929، ومن المسافة المتداخلة ما بين وعيه المتقدم (درس في معهد الفنون الجميلة قسم التمثيل والاخراج المسرحي)، وبيئته الاجتماعية المتخلفة ماديا، على الاقل، اقام شخصية عصامية حد انه لم يعمل في التمثيل الذي درسه الا هاويا، فيما كان في الموسيقى والغناء، محترفا على درجة من الابهار، على الرغم من عدم دراسته للانغام وفنونها، وانما سعى الى تعليم ذاته بذاته، اعتمادا على موهبة لافتة وايمان عميق بالذات:
"انا خريج معهد الفنون الجميلة قسم الاخراج والتمثيل، ولم ادرس الموسيقى بشكل اكاديمي، وانما علمت نفسي بنفسي، ولم اتتلمذ على يد اي كان، بل ان اعتمادي على موهبتي ونفسي كان الاساس في تجربتي الفنية، حتى اني لم اغن لاي ملحن غيري، حتى لا يتغير لوني الغنائي الذي عرفت به. لقد مثلت كثيرا، واول عمل لي كان مسرحية بعنوان "ممثل ومطرب" مع الفنان جعفر السعدي كان ذلك في العام 1948 كما شاركت في فيلم "يا ليل يا عين"، وفيلم "ارحموني" مع بدري حسون فريد، وهيفاء حسين، وكان من اخراج حيدر العمر، وشهد لفناننا الراحل استعراضا غنائيا بعنوان "وادي الرافدين" غنى فيه كل الوان الغناء العراقي من شماله حتى جنوبه، كأنه في ذلك اوجز ما كان يصبو اليه حقا، في ان يكون ملمحا عراقيا صافيا. اضافة الى فيلم "لبنان في الليل" اخراج المطرب والملحن والممثل اللبناني محمد سلمان الى جانب صباح وسميرة توفيق ورشدي اباظة، وغنى فيه "اسألوه لا تسألوني" التي غنتها فيما بعد المطربة مائدة نزهت، و في لبنان ايضا صور فيلما آخر بعنوان "يا ليل يا عين" من اخراج كاري كاربنتيان.
سعي الفنان علي الى "تعليم ذاته بذاته، اعتمادا على موهبة لافتة وايمان عميق بالذات" ما كان سيثمر، لولا بدء مرحلة فكرية وثقافية كانت فيها الدولة العراقية، تسعى الى مؤازرة كل صاحب موهبة في المعارف العلمية والفنون الجميلة، مما وفر له فرصة، للدخول اعتمادا على موهبته فقط، ودون اي عامل آخر لا علاقة بالفن واشتراطاته به. وفي مؤشر على عناية الدولة العراقية بمواهب البلاد الفنية ( بعد الحرب العالمية الثانية بخاصة)، فان ملحنا ومغنيا مثل رضا علي، وعلى العكس مما اصبح شائعا عن نفور الدولة ومؤسساتها من الفنانين، بدأ حياته المهنية عبر دور تربوي في "النشاط المدرسي"، وقضى فيه 30 عاماً، فوصل درجة وظيفية مرموقة، حين كان مشرفاً اولا في وزارة التربية.
مبدع انغام بغداد لاصوات عربية
وعن تأثير رضا علي العميق في الغناء العراقي، ليس صعبا القول، انه يأتي قبل ناظم الغزالي في الانتشار بالغناء العراقي عربيا، فقد وزع الحانه على الحناجر العربية، قبل ان يتمتع صاحب اغنية "فوق النخل" بشهرة عريضة في الستينات، ويكفي ان لحنه "ما يكفي دمع العين" الذي شدت به المطربة الراحلة فائزة احمد، حمله على اجنحة رقيقة الى شهرة عربية يستحقها، بعد ان استحق مكانة له في الضمير الثقافي العراقي الحي قبل ان تطعنه التحولات السياسية.
لم تكن المطربة اللبنانية الاصل، المصرية الشهرة، الراحلة فائز احمد، تذكر من دفع بتجربتها نحو ضفاف فنية راقية، الا وتذكر الملحن العراقي رضا علي، وهو ما يستحق منها، مثل هذا التنويه المميز، والاشادة اللافتة، فاغنية " ميكفي دمع العين يا بوية"، بشجنها الاسر واشواقها التي جاءت الالحان المعاصرة الرشيقة، لتخفف من "ثقل" مفراداتها المحكية العراقية، ثم اغنية "خي لا تسد الباب خي بوجه الاحباب"، جعلتا من انغام رضا علي، بصمة لحنية عراقية لم تكن قد عرفت الطريق من قبل الى الكثير من الاصوات الغنائية العربية.
وما نجح فيه رضا علي مع فائزة أحمد، كان تأكد مع الحان عدة قدمها، مبدعنا العراقي الراحل، لصوت المطربة نهاوند، وتحديدا مع اغنيتي" يابا يابا شلون عيون عندك يابه"، و" إتدلل عليّ إتدلل"، وغنت له المطربة سميرة توفيق "وحدك ملكت الروح " و"أشقر وشعرو ذهب"، فيما ظل لحنه النادر في تدرجاته النغمية، وادته المطربة راوية "أدير العين ماعندي حبايب" مثالا حيا على قدرة الانغام البغدادية، كما مثلها رضا علي، في الوصول الى الاسماع العربية لمطربات بارزات .
غناء مبهج على عكس تيار الحزن العراقي
وكانت لمسة رضا علي في اللحنية العراقية، هي في احترامه الواضح للتراث النغمي العراقي، لكن دون الخوف من مغامرة الحداثة، حتى تعرض الى انتقادات لاذعة وقاسية عام 1951، لكن رده كان في سلسلة الحان تقدم مشاعر الحب، بصورة بدت مألوفة وليست خارجة على الوعي الاجتماعي، حتى ان الحانه بدت اقرب الى ذائقة العائلة العراقية السائد، دون خدش للحياء العام، ولكن ايضا تقديم صورة الرجل العاشق والمرأة المعشوقة، بشيء من الجرأة الباعثة على الاحترام.
وهو عبر رشاقة جمل الموسيقية وخفتها، إن شئت، طبع اغنيته والحانه ببصمة الفرح والبهجة التي بدت مفارقة كليا للطابع الحزين والثقيل في عموم الغناء العراقي، كأنه في ذلك كان يعكس في بنية الحانه واغنياته، جوا من الحيوية الثقافية والوجدانية والاجتماعية في عقد الخمسينيات الذي بدا فيه العراق واعدا بالكثير من الامال والتحولات الكبرى، بما يبدو مناقضا للرتابة الشعورية المنكفئة على حزن تقليدي اقرب الى الاحباط.
رضا علي يمثل مرحلة متكاملة في تطور الغناء العراقي، بل ثمة رأي يبدو على جانب كبير من الدقة والموضوعية حين ينظر الى ألحان صاحب موشح "قيل لي قد تبدلا" الذي ادته الراحلة عفيفة اسكندر، على انها الحان تنتمي الى شكل "الاغنية الشعبية المنسجمة مع الروح المدينية"، كما يشير الى ذلك الناقد الموسيقي عادل الهاشمي، وفي سياق نغمي من البساطة والسلاسة مما قرّبه كثيراً إلى ذائقة الناس الذين لم يكن الا صادقا معهم، ومع الجميل من قيمهم الثقافية والانسانية السائدة.
والحانه اغتنت بالجملة الموسيقية المناسبة للأوركسترا الضخمة، والانفتاح على اكثر من مصدر نغمي غربي ( خذ اللحن اللافت في غنوا يا أطيار)، على جاري اسلوب الملحنين الكبار تلك الايام، أمثال محمد عبد الوهاب، محمد القصبجي، فريد الاطرش وغيرهم.
الغربة في الوطن..
في اواخر ايامه، وبعد ان كان عاد للبلاد اثر فترة من التغرب في المانيا، كان يقول ان شعورا قاسيا يحاصره ويشعره بانه "مغيب ومهمش"، موضحا " لقد غيبني النظام البائد، واضطهدني الى ابعد حد لاني لم ألوث صوتي وتاريخي بمديحه. لكن الذي يحز في نفسي ويؤلمني انني ما زلت مضطهدا ومغيبا حتى في ظل المسؤولين الجدد، وكنت اعتقد انه سيرد الاعتبار لي، فمنذ مرضي لم يزرني احد من وزارة الثقافة سوى انهم بعثوا لي ببطاقة تحية، تمنوا لي فيها الصحة والشفاء، وهذا ما آلمني اكثر، لان ذلك يدل على معرفتهم بسوء حالتي الصحية، وما وصلت اليه من مؤشرات خطرة، ورغم ذلك فلم يزرني احد، فانا اعيش عزلة مريرة، وعزائي الوحيد انني بحماية رب عظيم".
وشعوره بالخيبة لم يكن بعيدا في دلالة يضمرها تاريخ موته، فهو تزامن مع الذكرى الثانية لسقوط النظام العراقي السابق، الذي "حاربه فيما اهمله بقسوة زمن الديمقراطية والتغيير بعد عام 2003. ولم يترك رضا أي لون غنائي إلا وأداه، فغنى الريفي والشعبي والبغدادي والمقام، لأنه يمتلك خامة صوتية لا تبلى. ولم تقتصر ألحانه على صوته حسب بل واكبت ألحانه الأصوات العراقية والعربية. وتعامل مع شعراء كبار أهمهم سيف الدين ولائي، الكردي الفيلي الاخر الذي ابعدته السلطة السابقة ومات هماً وكمدا بسبب حبه للعراق. وكاد أن يلحقه رضا علي، لولا تدخل بعض الخيرين وحالوا دون تسفيره. لكنه عندما شعر بتهميشه سافر إلى أوروبا حيث يسكن شقيقه. وعاد بعد عام 2003 لكنه ظل مهمشا ولم يحصل على شيء يذكر بالرغم من أنه قدم عبر فنه الجميل، خدمات جليلة للعراق "* الباحث كمال لطيف سالم "المدى"
محطات
*يدين بالفضل للشيخ علي درويش الذي اعانه على دخول الاذاعة وتخطى لجنة الاختبار وتسجيل اول اغنية له عام 1949 "حبك حيرني".
* ثم تلاها بقصيدة زكي الجابر "ذكريات" ثم أغنية "مالي عتب وياك" وأغنية "شدعي عليك يلي حركت قلبي" التي ادتها فيما بعد نرجس شوقي.
* ثم جاءت اغنية "سمر سمر" التي منحت رضا علي جواز المرور الى قلوب المعجبين والعشاق. *موشح "قيل لي قد تبدلا" لعفيفة اسكندر.
* " مر يا اسمر"، "بيا عين جيتوا تشوفني "، "انتظار"، "حرام"، "حمد يا حمود" و "اسألوه لا تسألوني" لمائدة نزهت.
* "تفرحون افرح لكم" و"يا بنت البلد" لزهور حسين التي قدمت الأغنية الثانية في فيلم "وردة" .
اما للمطربات العربيات فقد قدم رضا علي عشرات الالحان:
*فائزة احمد غنت له : "خي لاتسد الباب"، "ميكفي دمع العين"، "الله وياك- روح تمهل بحبك"، "وين الأحباب"، "جيرانكم ياهل الدار" و "الحب يلعب بكيفه".
*وفي سياق لحني مختلف قدم للمطربة سميرة توفيق ثلاثة الحان، هي "وحدك ملكت الروح"، "سرب الكطا"، و"الله وياك روح تمهل بحبك" لكنها بلحن آخر يختلف عن لحن الأغنية ذاتها التي أدتها المطربة فائزة احمد. كما اعدّ لها لحنا قديما عبر اغنية "ما كدر أكلك".
*"ادير العين ما عندي حبايب" و"على باب الحب" للمطربة راوية.
*"ادلل"، "اشلون عيون عندك" لنهاوند.
وللفريق النسائي المصري الشهير "الثلاثي المرح"، قدم "أسعد يوم يوم اللي تعارفنا".
*ولنرجس شوقي لحّن " البوسطجي" و"شدعي عليك يلي حركت قلبي".
*وللمطربة إنصاف منير أعطاها: "انت للقلب سلوى" وغيرهم كثير.
* جزء من الدراسة نشر في صحيفة "الحياة" بعد ايام على رحيل رضا علي