إزاء بعض المحاولات الفردية التي تظهر بين فترة واخرى في كتابة الموسيقى وفي بعض الدول العربية، كنت اتساءل : متى تكون لنا موسيقى مجردة او موسيقى بحتة والتي هي بالاساس – الموسيقى التي لا تصاحبها الكلمات؟ واعادني السؤال الى ما اعرف وهو بسيط، ورحت ابحث واقرأ، فوجدت ان الكتابة الموسيقية تتطلب مواكبة علمية دقيقة، وقبلها طبعا الموهبة المتميزة القادرة بصاحبها على جعله يكتب موسيقاه وفق لغة سبق له ان درسها وعرف نظامها الدقيق. وغياب "الموسيقى البحتة" في موسيقانا العراقية ليس وقفا علينا، فهو سمة لموسيقانا العربية تقريبا، وذلك على ما اعتقد يعود لاصل عبارة "كتابة الموسيقى "، فهو يدلل على مرجعية غربية، ويحيلنا على عجل الى الموسيقى السمفونية والتي هي احد اشكال الموسيقى البحتة.
هذا لا يعني، حسب الباحثة د. شهرزاد قاسم حسن، غياب الموسيقى البحتة في الموسيقى العربية، وهي تقول في مقابلة لها مع مجلة "مواقف" : "الموسيقى البحتة في العالم العربي – الاسلامي يمكن ان نتحدث عنها، فهي تكمن في التقاسيم الحرة لكافة الآلات الموسيقية كالعود والكمان والقانون وغيرها، الموسيقى البحتة عندنا ذات علاقة بالتجريد، وحتى في حالة وجود نصوص واشعار تصاحب الموسيقى العربية، فليس من السهل الجزم بان الموسيقى العربية خاضعة للعروض، اضافة الى وجود كثير من المقاطع في اداء الغناء العربي تؤدى فيها كلمات وعبارات غير ذات معنى ولا علاقة لها بالنص. يمكن ان يدل هذا على الدور التجريدي او المجرد للموسيقى خارج دائرة الكلمات، بمعنى آخر يمكن اعتبار الكثير من الموسيقى العربية موسيقى بحتة ". خصائص وصفات في الموسيقى العربية كهذه، تظل غالبا خارج قياسات ( التدوين ) التي تحفظ لها موروثها بعيدا عن العبث الذي طالها حين بدأت محاولات ( التجديد ) التي اقدم عليها العديد من القائمين على الموسيقى العربية في اكثر من بلد. وهؤلاء الذين درسوا الموسيقى ( علما ) حملوا في نهج التحديث الذي تصوروه للموسيقى العربية معرفة ( غربية ) صرفة، فغالبيتهم درسوا الموسيقى في معاهد وجامعات الغرب، وكان ( الهارموني ) الذي تعتمده تقنية التأليف الموسيقي، ما جعلهم يستخدمون اللغة الغربية، وحروفها الصوتية، وانصبت محاولات ( التحديث ) في الكتابة الموسيقية العربية بثلاثة اتجاهات هي :
الاول : كتابة الموسيقى وفق النمط الغربي في اشكال مثل (السوناتا) او (السمفونية)، واضافة شيء من روح الموسيقى العربية او لحن شعبي عليها – هنا يمكن ان ندرج اعمال وليد غلمية في هذا الاتجاه.
الثاني : ( معالجة ) الالحان الموسيقية المعروفة محليا والتي تحمل معها سمات ذائقة شعبية غنية وخصبة، وفق تقنيات التأليف الموسيقي – الهارموني – وهذا مما غير فعليا في سمات تلك الالحان، وحوّلها الى نتاج غير محدد الملامح، إذ أبعدها اصلا عن عصرها وايقاعها الذي حملته كسمة لمرحلة من التطور الاجتماعي.
الثالث : وهو الذي سيطر لفترة خمسة عقود او يزيد، على معظم ما يكتب في الموسيقى العربية والذي اعتمد استعارة عناصر الموسيقى الغربية، و (الصاقها) على اصول الغناء والموسيقى العربية، فهناك استخدام الآلات الموسيقية الغربية بكثرة غير عادية، وتضخيم حجم الفرقة الموسيقية. واذا اضفنا الى ذلك الاستعانة التي تتم الآن بالآلات الغربية المتطورة تقنيا وبكثرة في الاعمال الموسيقية العربية، لتعرفنا على ( هجين ) من الالحان – هذا الاتجاه للتذكير، دخل لاول مرة مع الاغنية المصرية باسمائها الكبيرة المعروفة ثم امتد ليشمل بتأثيره اغلب الدول العربية.
وإزاء ( اشكالات ) التحديث في الموسيقى العربية التي تعرضنا لها، يواجهنا السؤال مرة اخرى كيف نكتب موسيقى عربية إذن؟ ما هي المشكلات التي تحول دون ان نذهب الى صالة ما لنستمع الى موسيقى عربية صافية أهي :
*محدودية الآلات التي تصاحب الغناء / الارتجال والتصرف الحر. *الاختلاف في درجات السلم الموسيقي من بلد عربي الى آخر. *مسألة وجود (ربع التون ). *غياب التدوين الموسيقي. ضمن اجواء تثيرها هذه الاسئلة او غيرها، ترى هل سنصل الى ما نبغيه : موسيقى عربية، ام اننا سنجد انفسنا وسط اتجاهات (التحديث) الثلاثة التي تحدثنا عنها، وعسى ان يتحقق الاجمل والاعذب الى الروح.
*نشرت في جريدة "القادسية" 14-10-1991
|