مقالات  



تاريخ ثقافي مختلف:أربعة عقود على العام 1973 الرهيب (3-7)

تاريخ النشر       07/11/2013 06:00 AM


هذا تاريخ ثقافي ليس بالضرورة انه مكتسب لضرورات الموضوعية "التأريخية"، انه الى حد كبير توثيق شخصي لاحداث عاصفة صادف ان انضوت في عام واحد هو 1973، لكنها يبدو من التأثير ما يجعلها حاضرة حتى بعد اربعة عقود على عامها العاصف والمدهش. انه يبدو توثيقا بدرجة ما، لعام عاصف في احداثه العراقية والعربية والدولية، ولكن لسعة هذا الامر، ولصعوبة ملاحقة تلك الاحداث بالتفصيل، رسمت صورة ما للعام الرهيب كما اسميته، من منظور ثقافي، لا اجد غضاضة في انه متصل بمفهوم "النقد الثقافي" الذي تعرفنا على اطروحته وتطبيقاته في السنوات العشر الاخيرة من القرن الماضي، مثلما لا اجد غضاضة في الاشارة الى انه قد يبدو تأريخا شخصيا، على الاقل في منظور الاحداث والمراجعة النقدية لها، غير انه على ما احسب سيظل مدخلا جديدا لقراءة الثقافي والسياسي والاجتماعي من خلال عام دون غيره.

علي عبد الامير عجام

 
اسحاق هييز يضع موسيقى اشهر برنامج ثقافي في "تلفزيون بغداد"

في العام 1973، قام مغني السول اسحاق هييز بتقديم عرض موسيقي بارز في شيكاغو، ضمن حدث ثقافي تضامني حمل عنوان "الشعب متحد لانقاذ الانسانية "، وفيه جاءت الاغنية – العمل الموسيقي اللافت "شافت" الذي سيصبح لسنوات طويلة المقدمة الموسيقية لاشهر برنامج ثقافي في "تلفزيون بغداد"، الا وهو برنامج "السينما والناس" الذي ظل فسحة ثقافية وفنية راقية لجمهرة كبيرة من العراقيين يوم كانت الثقافة والمعرفة والجدوى الانسانية، تشغلهم عقليا وروحيا، لا بل ان الموجهات الفكرية لتلك المرحلة، وهي يسارية على الاغلب، كانت وجدت في البرنامج، وبحسب مقدمته على الشاشة، السيدة اعتقال الطائي، ومخرجه ومعده البارع علي زين العابدين، مسارا يعتمد تقديم الافكار الانسانية الكبرى في اطار من التسلية الراقية، تمثله السينما وعروضها المذهلة تلك الايام.

المهم في حكاية هييز و"السينما والناس"، هو ان الفنون والثقافة العراقية كانت تتصل بابرز النتاجات في العالم، وتنسجم معها دونما جعجعة كبيرة، ودونما ادعاءات فجة، بل ضمن مفهوم اتصالي هادىء ومؤثر ومثمر ايضا.

لمسة بغدادية في "الجانب المظلم من القمر"

ظلت اسطوانة فريق الروك "بنك فلويد" التي صدرت في اذار العام 1973 وحملت عنوان " الجانب المظلم من القمر"، الاشهر في اسطوانات هذا اللون من الموسيقى، فهي ظلت على لوائح الاسطوانات الاكثر مبيعا طوال 741 اسبوعا، اي انها فعليا عبرت ليس مجرد سنوات بل عقود ايضا، وهي تنافس على الصدارة وتشغل اهتمام متذوقين يتجددون. الاسطوانة تقدم الحانا واغنيات ليس صعبا القول عنها، انها تقدم الحب والعاطفة الرقيقة ضمن اجواء من الوعي الاجتماعي المتقدم، وهو ما كان تلمسه عراقيون على نحو واسع في عروض لفرق غنائية محلية كانت تقدم اللحن الغربي المعاصر، راحوا ينقلون بدأب ومحبة وشغف نادر، الحان "بنك فلويد" وغيرها، في مساءات تبدأ من مسرح معرض بغداد الدولي ولا تنتهي بحدائق النوادي الاجتماعية الانيقة.

1973 - 2013 : مخضبون بالأمل وان بدت اعمارنا محنية الظهر

في سنتي الجامعية الاولى (1973 - 1974) تعرفت الى صديق العمر امين علي عودة، واليه كتبت ذات يوم من ايام المحنة العراقية، نصا استعيد فيه ايامنا، واجمل ما فيها بمقابل قبح الراهن العراقي، لاسيما ان منزل عائلة الصديق الاثير كان شاهدا على فصل مرعب من الحرب الطائفية العام 2007، وفي هذه الاستعادة الثقافية للعام 1973، اكتب اليه ثانية واقول:

وقفنا ذات يوم ملوحين للأمل، وإن كنا نشعر بغصة ألم، كنا إحتمالات، و مسارات، كبرنا في مطارح مختلفة، شهقنا كثيرا وتهدجت اصواتنا مرارا، مرحنا مع الصباح وهو يضيء اكتافنا، وابتهجنا رغم ان الغناء شجن يأتي من "رجعت الشتوية".

كنا مضيئين رغم اقبية العتمة، كنا نلعب كمراهقين ونتكلم بحكمة المتصوفين، كنا طائشين، غير ان البنات لا يأمن مكانا الاّ في "زاويتنا". كنا نحب انفسنا، غير اننا مفعمين بطين البلاد وغرين انهارها، كنا مكتظين بالاسرار غير ان (امين) شيخ طريقتنا، لا يبذل جهدا حين يكتشف فينا شجنا او وردة سقطت من " دقيت طلّ الورد عالشبك ".

جئنا العراق المعاصر من سبعينات القرن العشرين، خبرنا شيوعييه، و هامشييه، ومردشوريته، وحاكميه البعثيين، ورجال الأمن، وكلاب "الإتحاد الوطني"، خبرنا الأمل وهو يذبح تحت اقدام بعثيين، وتلمسنا الياسمين في (سهام وحميد) و(هناء) و(هدى البيضا) و(هدى الطويلة)، وغفونا في بيت مصدق، ورشفنا من شاي (وداد)، وركبنا قطار الجنوب برفقة سرب من نوارس (قسمت).

امين علي عودة وعلي عبد الامير عجام

سخرنا من هواجس البعثيين، و اقلقتنا حيرة الشيوعيين من سؤالهم السبعيني: مالبديل؟ غنينا، وبكينا، وثملنا ولطمنا على اكثر من حسين، قرأنا فلسفة واحببنا فسلجة، نجحنا في "الباثولوجي" واشقانا "الباراسايتولوجي"، احببنا شعر "الأخضر بن يوسف" وكرهنا رواية "الأيام الطويلة"، كنا معجبين برقة استاذة الصيدلة المصرية د. حنيفة، وكرهنا غلاظة د.فؤاد الشيخلي .

كانت صباحاتنا بهيجة مع اناقة زميلاتنا، وطيبة كأنها شربت رمان مع فقر عدنان ودماثته، قرأنا "سيدة التفاحات الاربع"، و تحمسنا لمأزق باسترناك المتشكك من "بطولة" الرفاق السوفيات، وانتقدنا ثقة مفرطة في بيانات الحزب الشيوعي العراقي، ومسحنا احذيتنا بالتقرير السياسي الصادر عن المؤتمر القطري الثامن للبعث.

سهرنا شعرا، وعرقا، ورقصا، وخصور فتيات، ودموعا، كنا احتمالات، غير ان ما فينا من صدق كان كفيلا برؤيتنا الكارثة وهي تكشف عن ساقيها مبكرا، كنا مأخوذين بحدائق الكلية كيف انها لم تهذب عدوانية (حسن نايف)؟، وكيف ان الجمال في بساتين دجلة كان يقطّر سما في (احمد الحديثي)؟ كيف رقّت فينا الحياة، وكيف ازدادت فيهم قبحا وقسوة.

في حديقة " نادي الأطباء" كنا نحتسي آخر قنينة "فريدة" لذيذة، حين كنا نتابع البكر عبر شاشة التلفزيون، وهو يكمل ذبح البلاد، حين اسلمها بهدوء الى رهط جزارين، فوج انذال علموا الشيطان دروسا، و وضعوا العراق تحت احذيتهم، تغوطوا على احلامنا، بينما كنا نلبس البيريات اول مرة.

الى غياهب الألم، الى هشاشة البلاد وهي رهينة سفلة، الى دم حروبهم في "البوابة الشرقية"، الى اصواتنا وهي مبحوحة، الى قصائدنا وهي تقارير في سجلات امن الكلية، وهي عيون تتربص بنا في استخبارات الفرقة العسكرية، الى جراحنا وهي ضحكات ضباط التوجيه السياسي، الى دموعنا وهي تحمينا من اسوار تعلو وتعلو، صبرنا على حروبهم وموتهم وتقاريرهم، وعقوباتهم وذبحهم سنواتنا، ابقينا شتلة ورد في نافذة صغيرة، واشعلنا بحرارة الأمل، قنديلا رافقنا في الغربة، في ظلمة الأيام، في كدر النفوس، قنديلا هو من سؤال عراق حميم صغنا ابتسامته وحزنه كما اشتهينا، وكما رقت ارواحنا ذات ربيع في "اسكي كلك"، وكما جرحتنا موجة في "شط العرب"، وكما بدا صافيا في قلوبنا غرين من الفرات، قنديلا يضيء من ذخائر الحق، من مخمل الجمال ومن ورود حياتنا التي فركتها اياد القسوة وبددتها، قنديلا لم يحمله ديوجين من قبل، ولا عرفته اقبية الوراقين، اشعلنا قنديلا من نسغ تلك الأيام وابقيناه حارس احلامنا، حارس طرق اولادنا الى المدرسة، قنديلا يضيء بالصدق، بالرعشة، بالعفة، بالزهد، بالغنى، بالأمل، بالصداقة، بحقيقة ان بلادا كونتنا و اطعمتنا شهدها ورسمتنا بطين سهلها الرسوبي، لا يمكن ان تتنكر لدموع محبيها حتى وإن تبددوا في هجرات، وان خنقتهم الحسرات، وان سدت طرقهم بالأموات .

الأيام التي كونتنا (بعد اربعين عاما على اول يوم جمعتنا فيه الدراسة الجامعية)، الأحلام التي تقطرت في افكارنا، النساء اللائي عشقنا واللائي هجرنا، الازمنة التي جففنا ومن يأسها عبرنا، الآن ومثلما تهدجت ارواحنا ذات يوم لفرط ما جبلنا على الصدق، وعلى الشوق المبرح للبلاد وان كانت اسيرة الأوباش، الآن في المكان ذاته، وفي المسار ذاته : الآن مازلنا مخضبين بالأمل، وان بدت اعمارنا محنية الظهر.



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM