سلام حربة*
الصباحات وجوه التاريخ، وكل صباح يولد أو ينطفيء يؤشر نقطة تاريخية.
في صباح الكلمة هذا، والساعة تشير الى السابعة من انبلاج الفجر وقرب غابة (جبلة)، وعنـد مفترقات الطرق إنتظروه هناك .. كانوا ملثمين بالعار وهم يخفون وجوها مسودة بالموت والكراهية ... لم ينظروا للشمس وهي تصعد من قلب الغابة تصبغ هامات الشجر بالحنّاء وتفضح قبلات الطيور في الاعشاش البعيدة عن أعين البشر.
يقفون هناك تغلي صدورهم بالحقد وهم يرمقون الناس والسيارات تتسابق نحو افق الحرية القريب، ما يغيظهم اكثـر، رحلة الكلمة الجديدة وضفافها الفيروزية الألوان. لقد أدمت الكلمة الحرة الشريفة، قلوب القتلة السود وتوعدوا مبتكريها. وقفوا عند مفترق الطرق في (جبلة)، مفترق الحياة والموت، لقد كان قاسم عبد الأمير عجام راحلا في طريق الحياة والقتلة تأخذهم ابصارهم الى صحراء الموت. اعترضوا سيارة قاسم ومعه في الرفقة صديقه المهندس باسل نادر، كانا ينطلقان صوب صباح بريء اكثر إشراقا.
كان القاتل اعمى، لم يبصر في قاسم سوى جبهته التي تشع بالكلام. صوّب غدارته الرطّانة بالموت نحو منبع الكلام. كان مسار واحد يثقب جبهة قاسم، واصلا باعجوبة الى جنة الحرف وربيع الرؤيا. في المغتسل وجسده الفتي يطهّر بالقرآن والماء كانت ضحكة قاسم اكثر اشراقا، لم أره مبتسما وسع شدقيه وفم جبهته الاحمر الطري ينز بالورود والكلام، جبهته دكة عقله والثقب باب وردي شفيف وطريق مسرة تطايرت منه اجنحة المعرفة، وملأت الدنيا ضجيجا وارهفت الآذان اليه صاغية، فيما كانت طلقــــة الجبناء خرساء أهالت على رؤوس مطلقيها الذل والهوان.
اختبأوا وراء خذلانهم وانهزامهم بعدما أيقنوا أن كل رصاص البنادق أخرس وأن كلمة واحدة، بقدرة الله قادرة على أن تطبق السماء على الأرض.
أين القتلة الآن، وأين قاسم ؟
إن قاسما ينفلق كل يوم الف قاسم، يحمله الناس نياشين على صدورهم وبين جدران قلوبهم وتضاء بإسمه صفحات المجلات والجرائد والذاكرات، وينزلق ناعما خفيفا على ألسن الناس يعطر أفواههم ويشيع في مجالس السمر البهجة والفخر. ستبقى وجوه القتلة مخفية بالعار، ولن يجرؤ أحد منهم ان يميط لثام ذله، يظلون ابد الدهر مختبئين في ذاكرة الظل ووجوههم سوداء بلون الليل الذي أنجبهم.
سيحاولون أن يغطّوا وجه الشمس التي تضيء جوانح العراق بكيدهم واطلاقات غدرهم لكنها الشمس التي لن تنطفيء والتي ستنشر عارهم على حبال الفضيحة وسيقترب منهم أبناء واصدقاء ورفاق قاسم عبد الأمير عجام وسيبصقون في وجوههم، فتزداد وجوه القتلة ظلاما على ظلام، وستأخذهم اقدامهم المرتجفة نحو اقرب مزبلة لنفايات التاريخ حيث هـي امبراطوريتهم العتيدة. سيبقى كلام قاسم وضحكاته وبراءته واحلام مستقبله تخرج فراشات نسيم من فم جبهته، لقد ظنوا بأنهم سيطمرون نبع كلامهم ولقد كانوا مغفلين وجهلة، لم يفطنوا الا وقد فتحوا بابا عليهم وسيلا جارفا من افكار ورؤى، وعالما تشيده الابتسامات، لن يستطيع احد ان يقف في مجرى تياره.
لقد ازداد قاسم ، بعد عرس شهادته، حضورا بيننا يوما بعد يوم، وكل صبح جديد تقرأ الناس الفاتحة ترسلها في اجنحة كلامه المحلق بعيدا فوق رأس الدنيا كلها. وفي كل صباح دام تصبّ اللعنات على رؤوس القتلة المطمورة في مستنقع الهوان والاصفـرار.
تبقى الكلمة حية، ويبقى الموت بلا صدى، ومجنون من يقايض الطلقة بالكلمة.
*العنوان الاصلي للنص كان "الطريق الى الكلمة"، وكاتبها الدكتور سلام حربة جسر بين الراحلين: قاسم عجام وباسل نادر فهو صديق "قديم" للراحل قاسم و"عديل" باسل.
|