هذا تاريخ ثقافي ليس بالضرورة انه مكتسب لضرورات الموضوعية "التأريخية"، انه الى حد كبير توثيق شخصي لاحداث عاصفة صادف ان انضوت في عام واحد هو 1973، لكنها يبدو من التأثير ما يجعلها حاضرة حتى بعد اربعة عقود على عامها العاصف والمدهش. انه يبدو توثيقا بدرجة ما، لعام عاصف في احداثه العراقية والعربية والدولية، ولكن لسعة هذا الامر، ولصعوبة ملاحقة تلك الاحداث بالتفصيل، رسمت صورة ما للعام الرهيب كما اسميته، من منظور ثقافي، لا اجد غضاضة في انه متصل بمفهوم "النقد الثقافي" الذي تعرفنا على اطروحته وتطبيقاته في السنوات العشر الاخيرة من القرن الماضي، مثلما لا اجد غضاضة في الاشارة الى انه قد يبدو تأريخا شخصيا، على الاقل في منظور الاحداث والمراجعة النقدية لها، غير انه على ما احسب سيظل مدخلا جديدا لقراءة الثقافي والسياسي والاجتماعي من خلال عام دون غيره.
"البيتلز": الغضب الشاعري الجميل وحيرة فاضل ثامر في الثاني من نيسان 1973، اصدرت شركة "كابيتول ريكوردز" للانتاج الموسيقي، اسطوانتان الاولى بعنوان " الالبوم الاحمر" وضمت اغنيات الفريق البريطاني الشهير " البيتلز" 1962-1966، و" الالبوم الازرق" وضمت اعمال الفريق 1967-1970، اي الاعمال التي وثقت تاريخا من الغضب الشاعري نقل الغناء البريطاني والغربي عموما، من ثنائية "الكلاسيكية الرصينة مقابل الحداثة الراقصة"، الى مستوى جديد، هو النص الغنائي المبتكر، وفيه الكثير من النقد الاجتماعي، المحمول على معالجة لحنية خارج اي نغم من الانواع السائدة. ارقّ من كان يشاركني الاستماع الى موسيقى "الروك اند رول" تلك الايام، كان صديقي في "اعدادية المأمون"، رفيق عبد الرحمن، وقد اشعرني بحسد وغيض حقيقيين حين ابلغني بان اسطوانتي "الالبوم الازرق " و"الاحمر" حملهما اليه والده من لندن، ليتحول الحسد والغيض الى شعور بالارتياح والامتنان لاحقا، حين دعاني الى بيته كي نبدأ جلسات استماع طالت كثيرا، ثم امتدت لتتحول كتابة لنصوص الاغنيات، وكأنها مطلوبة في المنهج الدراسي، وعرض تلك النصوص على استاذنا في اللغة الانجليزية (السادس العلمي 1973) فاضل ثامر، الكاتب والناقد المعروف ورئيس اتحاد الادباء العراقيين اليوم، ليساعدنا في ترجمة بعض مقاطعها، والذي بقدر ما كان يعتبر انشغالنا، نوعا من النشاط الثقافي، الا ان الحيرة، كانت تتملكه حيال اهتمامي هذا، لاسيما انني عرضت عليه قبل ذلك، نماذج مما كنت قد كتبت من قصائد، ونشر مقطع من احداها في مجلة "الاذاعة والتلفزيون"، وشجعني على الاستمرار بكتابة الشعر، مثلما افرحه مقال كتبته في "النشرة الجدارية" الشهيرة للمدرسة وحمل عنوان "ما جدوى الثقافة"؟
"الخنافس" في قبضة طلفاح ترجمة "البيتلز" تعني "الخنافس" وبحسب اختزال شعبي عراقي، صارت مفردة "الخنافس" تلاحق الشبان ممن اطلقوا العنان لشعر رؤوسهم، او قصوه وفقا لتسريحة اعضاء "البيتلز"، وتحولت الى "خنفس" كـ"وصف دوني"، ما انفك العراقيون يبرعون فيه الى اليوم، بل فاقوا ما كانوا عليه قبل اربعة عقود من الحكم على الفرد من خلال مظهره، وطالت مفردة "خنفس" أي شاب متأثر في مظهره، بما كان فعله أعضاء الفريق البريطاني الاربعة من تأثيرات ثقافية وسلوكية ومظهرية ايضا. "الخنافس"، لاحقهم متعجرف كبير، انتجه زمن الانقلابات الجمهورية الذي فتح العراق على ابواب القتل والرعب وحكم الريف والبداوة، اسمه خير الله طلفاح، فكان عبر كونه خالا لصدام حسين، وضابطا سابقا ومتنفذا في اوساط منفذي انقلاب تموز 1968، قد تولى منصب محافظ بغداد، وأراد العاصمة مثالا لأخلاق رفيعة وصارمة مثل صرامة الضباط الذين حكموها منذ العام 1958 وأحالوها خرابا اجتماعيا صار اليوم أوحالا دونما آخر، فاقام قسما جديدا حمل اسم "شرطة الاداب" تطوع فيه عراقيون من "السرسرية" و"قطاع الطرق" والفاشلين في الدراسة، واصحاب السوابق الجنائية والاخلاقية، وكانت مهمتهم تتركز على قص شعر "الخنافس" وسط الشوارع في بغداد، وعلى طريقة جز صوف الاغنام، وعلى صبغ سيقان الفتيات ممن كانت ترتفع تنوراتهن عن مستوى الركبة بالوان الدهان اللزج (البوية). ما كان حصتنا في العام 1973 من "شرطة الاداب" تلك، مفرزة كانت يقف عناصرها عند باب مدرستنا " اعدادية المأمون للبنين"، واخرى في مكان ليس بعيدا عن مدرستنا، وتحديدا عند باب مدرسة "اعدادية الفاروق للبنات"، كثير من "خنافس" مدرستنا اضطر الى قص شعره، خوفا من انتقام "العناكب الطلفحاية السامة"، مثلما توقفت بنات "الفاروق" عن رفع مستوى تنوراتهن اعلى من ركبتهن، بل كان بينهن من يطلقن الضحكات العالية، على اصدقائهن وقد تخلوا عن تسريحات الشعر الكثيف، وحذرهم من توجيه حتى النظرات اليهن، خشية انقضاض عسس طلفاح عليهم؟
أطول من شعر "البيتلز" وأقصر من تنورة بريجيت باردو وبما ان المبالغة في الولاء، صفة من يفتقر لأساس انساني رصين يتربى عليه، ومن لا رقيب اخلاقيا يحكمه، فقد بالغ " السرسرية" في ضمن "شرطة الاداب" في تنفيذ اوامر سيدهم، وهو ما عاد على المظهر المدني لبغداد بفسحة ما، بعد خوف وانغلاق، فقد دفعتهم تلك المبالغة الى "الاهداف الخطأ"، حين طبقوا عقابهم "الطلفاحي" الفريد على ابناء شخصيات متنفذة، وبنات عائلات بغدادية مرموقة، وهو ما جر عليهم الويل والثبور، لينسحبوا من الشوارع التي عادت مرة اخرى لتحتشد بشبان اطلقوا العنان لرغباتهم في مظهر حاكى ما هو ابعد من "البيتلز"، ولم يعد وصف " خنفس" دلالة على "الدونية"، اذ صار "الخنافس" في شوارع بغداد هم التيار الاعظم بين شبابها، مثلما الشابات، صرن يباهين بجمال سيقانهن الى ما هو اعلى من الركبة بكثير، واطلقن العنان لازياء قصيرة، من فساتين وتنورات، الى ما هو يضاهي "ميني جوب" النجمة الفرنسية الشهيرة حينها، بريجيت باردو.
* نشرت في "العالم" البغدادية |