نص: علي عبد الأمير
الى أمين علي عودة ثانية
وقفنا ذات يوم ملوحين للأمل، وان كنا نشعر بغصة الم، كنا احتمالات، و مسارات، كبرنا في مطارح مختلفة، شهقنا كثيرا وتهدجت اصواتنا مرارا، مرحنا مع الصباح وهو يضيء اكتافنا، وابتهجنا رغم ان الغناء شجن يأتي من " رجعت الشتوية".
كنا مضيئين رغم اقبية العتمة، كنا نلعب كمراهقين ونتكلم بحكمة المتصوفين، كنا طائشين، غير ان البنات لا يأمن مكانا الآ في "زاويتنا". كنا نحب انفسنا، غير اننا مفعمين بطين البلاد وغرين انهارها، كنا مكتظين بالاسرار غير ان (امين) شيخ طريقتنا، لا يبذل جهدا حين يكتشف فينا شجنا او وردة سقطت من " دقيت طلّ الورد عالشبك " . جئنا العراق المعاصر من سبعينات القرن العشرين، خبرنا شيوعييه، و هامشييه، ومردشوريته، وحاكميه البعثيين، ورجال الأمن، وكلاب "الإتحاد الوطني"، خبرنا الأمل وهو يذبح تحت اقدام بعثيين، وتلمسنا الياسمين في (سهام وحميد) و(هناء) و(هدى البيضا ) و(هدى الطويلة )، وغفونا في بيت مصدق، ورشفنا من شاي (وداد)، وركبنا قطار الجنوب برفقة سرب من نوارس (قسمت).
كاتب السطور(يمين) وصديقه امين علي عوده 1976
سخرنا من هواجس البعثيين، و اقلقتنا حيرة الشيوعيين من سؤالهم : مالبديل؟ غنينا، وبكينا، وثملنا ولطمنا على اكثر من حسين، قرأنا فلسفة واحببنا فسلجة، نجحنا في "الباثولوجي" واشقانا "الباراسايتولوجي"، احببنا شعر "الأخضر بن يوسف" وكرهنا رواية "الأيام الطويلة"، كنا معجبين برقة استاذة الصيدلة المصرية د. حنيفة، وكرهنا غلاظة د.فؤاد الشيخلي . كانت صباحاتنا بهيجة مع اناقة زميلاتنا، وطيبة كأنها شربت رمان مع فقر عدنان ودماثته، قرأنا " سيدة التفاحات الاربع"، و تحمسنا لمأزق باسترناك المتشكك من بطولة الرفاق السوفيات، وانتقدنا ثقة مفرطة في بيانات الحزب الشوعي العراقي، ومسحنا احذيتنا بالتقرير السياسي الصادر عن المؤتمر القطري الثامن للبعث. سهرنا شعرا، وعرقا، ورقصا، وخصور فتيات، ودموعا، كنا احتمالات، غير ان ما فينا من صدق كان كفيلا برؤيتنا الكارثة وهي تكشف عن ساقيها مبكرا، كنا مأخوذين بحدائق الكلية كيف انها لم تهذب عدوانية (حسن نايف)؟، وكيف ان الجمال في بساتين دجلة كان يقطّر سما في (احمد الحديثي )؟ كيف رقّت فينا الحياة، وكيف ازدادت فيهم قبحا وقسوة. في حديقة " نادي الأطباء" كنا نحتسي آخر قنينة " فريدة " لذيذة، حين كنا نتابع البكر عبر شاشة التلفزيون، وهو يكمل ذبح البلاد، حين اسلمها بهدوء الى رهط جزارين، فوج انذال علموا الشيطان دروسا، و وضعوا العراق تحت احذيتهم، تغوطوا على احلامنا، بينما كنا نلبس البيريات اول مرة. الى غياهب الألم، الى هشاشة البلاد وهي رهينة تكارتة سفلة، الى دم حروبهم في البوابة الشرقية، الى اصواتنا وهي مبحوحة، الى قصائدنا وهي تقارير في سجلات امن الكلية، وهي عيون تتربص بنا في استخبارات الفرقة العسكرية، الى جراحنا وهي ضحكات ضباط التوجيه السياسي، الى دموعنا وهي تحمينا من اسوار تعلو وتعلو، صبرنا على حروبهم وموتهم وتقاريرهم، وعقوباتهم وذبحهم سنواتنا، ابقينا شتلة ورد في نافذة صغيرة، واشعلنا بحرارة الأمل، قنديلا رافقنا في الغربة، في ظلمة الأيام، في كدر النفوس، قنديلا هو من سؤال عراق حميم صغنا ابتسامته وحزنه كما اشتهينا، وكما رقت ارواحنا ذات ربيع في "اسكي كلك"، وكما جرحتنا موجة في "شط العرب"، وكما بدا صافيا في قلوبنا غرين من الفرات، قنديلا يضيء من ذخائر الحق، من مخمل الجمال ومن ورود حياتنا التي فركتها اياد القسوة وبددتها، قنديلا لم يحمله ديوجين من قبل ولا عرفته اقبية الوراقين، اشعلنا قنديلا من نسغ تلك الأيام وابقيناه حارس احلامنا، حارس طرق اولادنا الى المدرسة، قنديلا يضيء بالصدق، بالرعشة، بالعفة، بالزهد، بالغنى، بالأمل، بالصداقة، بحقيقة ان بلادا كونتنا و اطعمتنا شهدها ورسمتنا بطين سهلها الرسوبي، لا يمكن ان تتنكر لدموع محبيها حتى وإن تبددوا في هجرات، وان خنقتهم الحسرات، وان سدت طرقهم بالأموات . الأيام التي كونتنا( بعد اربعين عاما على اول يوم جمعتنا فيه الدراسة الجامعية) ، الأحلام التي تقطرت في افكارنا، النساء اللائي عشقنا واللائي هجرنا، الازمنة التي جففنا ومن يأسها عبرنا، الآن ومثلما تهدجت ارواحنا ذات يوم لفرط ماجبلنا على الصدق، وعلى الشوق المبرح للبلاد وان كانت اسيرة الأوباش، الآن في المكان ذاته، وفي المسار ذاته : الآن مازلنا مخضبين بالأمل، وان بدت اعمارنا محنية الظهر .
|