مشهد لمدينة استانه عاصمة كازاخستان الجديدة ( كاميرا علي عبد الامير عجام)
اليوم، وأنا ازور كازاخستان، تستعيد العاصمة أستانة ذكرى تأسيسها، بقرار من الرئيس نور سلطان نزار باييف، فإنها تستعيد لحظة ما يعنيه إمساك الدولة بقرارها، كي لا تبدو نهبا للمافيات السياسية والاقتصادية، وحتى الإجرامية العادية، مثلما يستعيد مسؤولون كثر في تلك البلاد، الأقوى حاليا في آسيا الوسطى، أنهم كانوا من مؤسسات الدولة السوفياتية، ولكن انهيار موسكو لم يكن، بالضرورة، انهياراً لبلادهم الوطنية، بل إن ذلك الحدث كان إيذانا بإيقاظ المشاعر القومية لتأخذ مداها الانساني بهدوء، وهو ما معناه فعليا: الإبقاء على مؤسسات الدولة لتسيير أمور البلاد، لان أي خيار غير الدولة كان سيعني خيارات المواجهات الانقسامية القومية والمناطقية، وهو الخيار الذي ذهبت إليه التجربة العراقية في انقضاضها على الدولة، مما أطلق العنان للمشاعر الطائفية والقومية، التي باتت تهديدا جدياً، لا للبلاد كوحدة وطنية حسب، بل للوجود الإنساني بكل أشكاله.
اليوم تقدم كازاخستان تجربة في ضرورة الإبقاء على مؤسسات الدولة لتكون حاضنة لأي تغيرات سياسية، حتى لو كانت في الانتقال من الدكتاتورية إلى الديمقراطية. ومن دون تلك المؤسسات لا انتقال حقيقيا، بل لا وجود حقيقيا للتجربة ذاتها، وهو ما أكدته التجربة العراقية التي صاغها الغزو الأمريكي، ورحبت بها أحزاب الإسلام السياسي الشيعية والأحزاب القومية الكردية انطلاقا من ثقافة راسخة عند تلك الأحزاب، ترى في الدولة العراقية شرا طائفيا وعرقيا، فكان غيابها شرا مطلقا على الحياة في بلاد كان إسقاط الدكتاتورية فيها عنوانا واعدا بالكثير من الآمال. في أستانة، تم البناء السياسي والاقتصادي تدريجيا، وتم الخروج من العاصمة القديمة (الما اتي)، المختنقة بجبالها وقسوة تضاريسها، وكان البناء هنا في مكان جديدة إشارة عميقة لمسار جديد، يتم الدخول فيه بخطوات محسوبة، بدأت من التخلص من الترسانة النووية وسيطرة الحزب الواحد، ولم تنته بالتحول إلى مدنية منفتحة على الاستثمار والتجديد الفكري والسياسي، ولكن دون المساس بمؤسسات الدولة بحجة ما أصبح فكرة (المنتصرين الأوغاد) في العراق: مؤسسات النظام السابق.
تتحدث إلى رجال برلمان، مثقفين، دبلوماسيين في عاصمة كازاخستان، مثلما تتحدث إلى رجال أعمال (بعضهم عرب) والجميع يتفق على أن هناك الكثير الذي يستحق الإنجاز، على الرغم من أن أية نظرة بسيطة لتصيب صاحبها بدهشة كلية عبر سؤال: هل يعقل أن كل هذا تم بناؤه في 15 عاما؟ ومثار الدهشة لا يبدو حاضرا بقوة الا عند العراقي، فهو لا يحفظ لحكام بلاده منذ عشر سنوات، وعلى الرغم من ثرواتها ومساندة مالية وبشرية من أقوى دولة في العالم ومعها أغلب الدول الغربية، سوى أنهم من حولوا البلاد إلى الأبرز في العالم، ولكن ليس في البناء وإنما في الفساد والخراب الفكري والإنساني والاقتصادي.
* نشرت في "العالم" البغدادية