مقالات  



دولة "المعاني المنقلبة"

تاريخ النشر       21/06/2013 06:00 AM


يتكرر سؤال بقوة كل مرة تبدو فيه الدولة العراقية الجديدة على نقيض ما عملنا من اجله بصدق واخلاص، في وقوفنا ضد دولة صدام حسين الديكتاتورية، سؤال من نوع : اهذه الدولة التي اردنا من خلالها، ان تكون جسرا ثابتا نحو دولة الحرية والديمقراطية والكرامة الانسانية والتطور العلمي والاجتماعي؟

السؤال تجدد مع اعلان "هيئة النزاهة العامة" بداية الاسبوع الجاري في ان نحو ثلثي  كبار مسؤولي الدولة العراقية لم يستجيبوا لكشف ذممهم المالية وابرزهم في "جهاز الامن الوطني "!

في اي دولة ينبري اعضاء اجهزة الامن الوطنية ليكونوا مثالا في الحرص على الدولة وامنها السياسي والاقتصادي وحتى الاجتماعي، واذ يكون "جهاز الامني الوطني" العراقي رافضا تطبيق القانون، فهو يعني اننا حيال انها "دولة المعاني المنقلبة" حقا!

وهذا الانقلاب في المعاني، هو تكثيف في حدث آخر، فثمة مسؤولون في "العدل" و" مكافحة الارهاب" و"قوات الحدود" ضد القانون. ففي اب 2011 اكتشفت وزارة الداخلية العراقية استمرار تهريب الأسلحة من ايران وبوتائر متصاعدة، وهو ما يبدو لاي مراقب مؤشرا جيد اعلى الاقل، فهي المرة الاولى التي تتجاوز فيها مؤسسة عراقية مهمة "الخطوط الحمر" المتعلقة بالعلاقة الوطيدة بين بغداد وطهران، وتسمي الاشياء باسمائها، لكن ما كشفه السيد الوكيل الأقدم لوزارة الداخلية عدنان الاسدي حول تهريب الاسلحة الايرانية من العراق الى ايران يتضمن فضلا عن "الجانب الايجابي"، مؤشرا خطيرا بكشف المعاني المنقلبة في الدولة العراقية، حيث إن "عمليات تهريب الأسلحة من إيران عبر محافظة ميسان (العمارة) جارية على قدم وسائق بشكل رسمي وغير رسمي وبكميات كبيرة تتضمن صواريخ وقذائف"، مؤكدا وجود "تغاضي عن مهربي الأسلحة في تلك المناطق"، وان "ثلاثة ضباط يكونون شبكة لتهريب الأسلحة من إيران احدهم يعمل في وزارة العدل والآخر في جهاز مكافحة الإرهاب والثالث يعمل في قوات الحدود".

وحين يكون مسؤولون في "العدل" و"مكافحة الارهاب" و" قوات الحدود" ضالعين في شبكة لتهريب الاسلحة، فهو ايجاز صريح عن انقلاب المعاني في الدولة العراقية الى نقيضها، فموظف "العدل" هنا يتحول ضد القانون باشتراكه في عملية تهريب اولا، و يصبح عاملا مساعدا، عبر تسهيله ايصال الاسلحة، في تنفيذ القتل وهو نقيض العدل ناهيك عن كونه ضد حق الحياة.

وحين يكون المسؤول  في "مكافحة الارهاب" ضالعا في ايصال اسلحة تستخدم في عمليات ارهابية، فهو امر يبعث على الرعب حقا، فهو لا يخالف وظيفته حسب، حين يتحول من "المكافحة" الى نقيضها اي "المساندة"، بل ان يصبح هو جزءا من الارهاب ذاته.

وحين يصبح ضابط "قوات الحدود" ضالعا في تهريب الاسلحة فانه اهان المعنى المؤتمن عليه، كما تفترضه وظيفته، بل تحول من "حماية الحدود" الى "انتهاكها".

ان ما كشفه السيد الاسدي، ليظهر ازمة حقيقة في الدولة العراقية ومؤسساتها الحالية، فهي لم تكن لتحمل هذه المؤشرات من المعاني "المتناقضة" لو اعتمدت، كما يقول كثيرون، مؤشرات الكفاءة والاقتدار وسياقات المواطنة، بل اعتمدت مؤشرات الولاء الحزبي والطائفي، وهي نقيض اي سياق مهني تفترضه ابسط قواعد العمل حتى في الدول "المتخلفة".

وفي حين تبدو المؤشرات التي كشفها الاسدي في تصريحه "صادمة" في الحقائق التي حملتها، حين يصبح المكلفون "حماية القانون" ضد اي قانون وعدل وسيادة،  فهي في واقعيتها، تكشف أزمة "دولة المكونات الطائفية والعرقية" التي تفخر الطبقة السياسية العراقية بانجازها، ومن هذه الطبقة حزب السيد الاسدي، ورئيس وزرائه ورئيس جمهوريته واعضاء برلمانه ايضا.

وفي جمهورية المعاني المنقلبة في العراق يصبح المتدين الحاكم هو الاكثر اجراما وفسادا، واكثرهم تشدقا بالديمقراطية هو اكثرهم احتقارا لها، والمحامي نصير القانون والمدافع عن الحق، يحكم عليه باستغلال النفوذ.

ويكاد يجمع فقهاء القانون والسياسة والفكر على ان اسوأ مرحلة يمكن ان يصلها الانسان حين يصير "ضحية"، هو ان يقلد "الجلاد" حين يتبادلون الادوار، فاغلب "ضحايا" صدام حسين ممن صاروا في سدة السلطة،  راحلوا يقلدون الجلاد في كل شيء، فهم ارهبوا الناس رعبا وتقتيلا، عبر الدولة تارة او عبر ميليشياتهم المنفلتة تارة اخرى، بل زادوا عليه في النهب والسلب، ناهيك عن تحويلهم مؤسسات الدولة الى اقطاعيات خاصة بهم .

وفي مؤتمر صحافي اعلنت لجنة النزاهة في حزيران  2012عن صدور احكام قضائية بالسجن على وزراء ومسؤولين كانوا بالامس من الضحايا، لكنهم ما ان وصلوا السلطة حتى صاروا مقلدين مشوهين للجلاد، فوزير التجارة السابق، والداعية (قيادي في حزب الدعوة- تنظيم العراق) عبد الفلاح السوداني، محكوم عليه بالسجن سبع سنوات لفساده، اي ان "الداعية التقي" في العراق مجرم لكونه ناهبا للمال العام.

وحكم ايضا على مسؤول "السجناء السياسيين" اي ضحايا النظام السابق الذين اعتقلهم وعذبهم بسبب معارضتهم له، اي ان نصير اصحاب الرأي الحر، فاسد وناهب للمال العام ايضا، وهو ايضا هنا يقلد الجلاد على اقبح ما يكون عليه التقليد.

ومن المعاني المنقلبة ايضا ان يكون المحامي والحاكم الفصل في قضايا نزاعات الملكية، فاسدا ايضا، فالمحامي احمد البراك متهم ايضا بالفساد الاداري ليصبح رجل القانون رمزا لانتهاك القانون.

انها دولة المعاني المنقلبة في العراق حقا.

* نشرت في "العالم" البغدادية



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM