ناجح المعموري*
أدرب ذاكرتي باستمرار على الاحتفاظ به حيا ويقظا، أراه معي مجاورا لي منتظرا تعقيبه على ملاحظاتي مثلما هو معروف دائما، ليس سهلا عليً الاقتناع بالغياب المادي ... لكن قاسما باق في ذاكرة المدينة. اشعر بحرج كبير في الكتابة عن قاسم عبد الامير لأن الاقتراب منه يعني العودة الى ماض هو التاريخ الممتد منذ بداية الستينيات،سنوات طويلة تميزت بتفاصيل كثيرة، اهمها لحظة العلاقة الاولى عندما كنا في الصف الثاني متوسط،جاء الينا في صباح خريفي ليتحدث أستاذي سعدي علوش عن طالب كفء يكتب إنشاءا متميزا وفي الاستراحة درجت بطيئا لا اعرف احدا يدلني على قاسم عبد الامير لكني اسرعت الى احدى غرف الصف الثاني فسألت طالبا عن قاسم فقال بهدوء : نعم .. أنا .. سلمت عليه وعرًفته بنفسي أنا الطالب الريفي الناحل الخجول وابتسم كعادته وقال انا كنت انوي البحث عنك والتعرف اليك لأن الاستاذ سعدي علوش حدثنا عنك.
كلانا إختار صاحبه .. ذهبت اليه اولا، وظلت صداقتنا منذ تلك اللحظة وحتى الآن .. انا ما زلت مرتبطا به تاريخا وثقافيا وفكريا ومهنيا، اشتركنا معا بهموم العراقيين السياسية واتسعت لنا "طريق الشعب" في السبعينيات وانفتح امامنا إتحاد الادباء ومجالات عديدة في بابل ووحًدتنا الاماسي والندوات وكنا معا توحدنا الاتفاقات الواسعة،حتى دربت نفسي على التحاور وإيًاه مختلفا في كثير من الفعاليات وكان مستجيبا للملاحظة،تعلمت منه وليس عيبا الاعتراف،كيف نحافظ على صداقتنا ومودتنا، وكيف نتبادل الثقافة في الاماسي.
قاسم عبد الامير.. عين ثقافة بابل*
عين كنا نقرأ بها وكلنا ارتضينا تلك العين الغائبة التي ما زالت وسيلة الشرفاء الاوفياء في تلمس اليومي ومعرفة وقائعه وقراءة الحاضر ايضا،هي عيننا التي استدرجنا بها الماضي وقرأناه جيدا ومنا من وجد فيه تراكما بحاجة الى غربلة ومنا من اكتشف قداسته فقط،انها عين قاسم عبد الامير الموحدة لنا .. نحن الاجيال المختلفة فكريا وانجازيا جعلتنا ننتسب الى مكان واحد ونقاتل من اجله ونصارح إرتباطاتنا بالاستعداد للموت من دونه.
ذات امسية: قاسم عجام (يمين الصف الاول) وناجح المعموري (يمين الصف الاخير)
الزمن هو الذي شيًد تاريخي الشخصي مع المفكر والشهيد قاسم .. شيًده درجة درجة وطبقة فوق طبقة عبر اكثر من اربعين سنة والزمن وحده الذي فتًت تلك الطبقات وهدها حطاما وركاما وأنا الآن اتحداه لاني ارفض ما حصل ومازلت جاثيا ألملم ما تهدم فأحاول ترميمه ثانية،كي اقنع نفسي من ان الثقافة لا تموت ولا تتوقف،بل ترتحل وتصير من جديد،كي تنفض عنها القديم وتختار الحداثة التي آمن بها قاسم واعتنقها،في الفكر والحياة والسلوك والحوار والكتابة ولذا دافع عنها،ولهذا اختاره السلفيون لأنه مختلف وإياهم .. لكنهم تجاهلوا عمق ما حدث في تاريخ ثقافة البلد .. كانت الدكتاتورية هي التي تقمع المفكر والمبدع وتقتله مستعينة بأنظمتها الوضعية،والسلفيون الذين غادروا الاقبية بدأوا القتل بوحشية فوق الارض .. اللعنة عليهم والمجد لقاسم وللثقافة التي شكًلتنا وصار عينا لها،هو عينها حيا وميتا. صحيح ان الثقافة العراقية عرفت ادباء حصل لهم دمار في الداخل ولذلك اسباب ذاتية وقصور في قراءة الواقع وتفاصيله،لكن المثقفين العراقيين الحقيقيين كانوا مهددين بالتدمير من الخارج،السلطة وانظمتها وقدرتها الفائقة على المراقبة وتنويع المعاقبة .. كان قاسم يدرك بانه مستهدف بالتدمير الآن او لاحقا،لكنه لم يفكر في يوم من الايام ان تكون ناحية مشروع المسيب الكبير (جبلة) التي قضى عمره فيها شابا وموظفا ومسؤولا هي التي تتجرأ وتسدد عليه رصاصا يكومه في الجغرافيا ذاتها .. هل اخطأ قاسم بعلاقته مع المكان؟ أشك، ولكن كيف حصل الذي كان معه؟ استهدفوا تاريخا طويلا،شطبوا عليه بالرصاص وتناسوا بأن الذاكرات حافظة له حتى الابد وهو الراوية المجددة لكل تفاصيل الحياة، الطفولة،الصبا،الشباب،الانتماء الصعب والدفاعات عنه والتحايل على العنف والسلطة .. هذه كلها سردية بابل التي صاغها قاسم بالاشتراك مع ابناء الكلمة والروح .. الكلمة التي قلناها بيضاء وطاهرة مثل حليب الامهات ولم نغادرها او نساوم عليها هذه هي الذاكرة التي اعنيها واقصدها،ذاكرة التفاخر بالصبر واحتمال الجوع والمشاركات بالموت المتكرر وراء البارود والنزوات وبقاء سرد سري لاصدقاء لنا ساهموا بحمايتنا علنا وسرا وبقاؤنا شكل من الاعتراف لهم .. اصدقاء رحلوا في الصراعات وآخرون ما زالوا احياء، كل شيء انتهى،وغاب الطاغية،وستظل الذاكرة الحلية لا تنسى من اخطأ وتتذكر من احسن للمدينة على ثقافتها ومنابرها ولا حاجة لذكر الاسماء.
الآن اعترف بأن علاقتي مع التاريخ طويلة وعميقة .. علاقتي مع قاسم تفضي بي نحو بلاغة مشتركة، كانت من سنين وأماس وسرود شكلتها السلطة المتنوعة .. سلطة الايديولوجيا والسلطة الرسمية .. سلطة العنف المجتمعي، سلطة القتلة .. اعترف الآن وبعد سيلان دمه ورؤيتي لرأسه الجميل مهشما ومغطى ببدلته السوداء ذات الخطوط الباهتة .. اعترف بأني صاح، لكني مجنون بالتاريخ المشترك الذي صنعناه ودافعنا عنه .. عفوا هو دافع عني وعنكم قبل ان يتخندق للدفاع عن نفسه .. لقد تكفل الرجل الوسيم و الساحر"القصخون" بالدفاع عن ثقافتنا الوطنية ولهذا فانا ارسم في الخيال اجنحة لتاريخي معه واصفر لها من اجل ان تطير .. تحلق وتكتفي راضية بالبقاء، في سماء بابل وسط السماء العراقية .. وسأظل محكوما بالمجازفة في استدعائه والتحاور معه والإنصات اليه.
لتفسح الارض لورود البابلي المهذب**
1- في البدء كانت الكلمة، النسق المميز للعراق القديم، ونظام انتاج المعرفة فيه، انها الازل ولحظة الحكمة والاجل. ظلت ملاحقة بالطرد والتهميش وليس اعتباطا اقتراح البنية الذهنية عددا من آلهة الكتابة، وايضا النسخ والحكمة،مثلما كان عدد آخر للخلق، هذه الثنائية إطار للعناصر الاولى الموازنة بقصد بين الخلق والتكوين والكلمة، فلا فرق بينهما. من هنا ارتحلت الكلمة بسيادتها في كل الديانات الشرقية وحتى الشمولية والتاريخية فيها،في بابل القديمة ظل هذا النسق واكدته بابل الآن وكان الشهيد منتجا للثقافة النقدية والفكر التنويري،ومدافعا عنها بالحكمة والهدوء والوقار الثقافي والاجتماعي اللائق بمفكر بابلي ارتضى خاتمة الدم، لحظة ما حطّم الارهاب رأس المفكر ليتدفق الدم شاهدا على شرف الثقافة في الداخل وصمودها بوجه البرابرة،انه انبعاث الكلمة مرة ثانية وستظل محكومة بدورة التجدد الازلي مثل العنقاء،نافضة عنها رماد الارهاب لترتسم امامنا الآن مبجلة، آيلة علينا بنظافة المعرفة. 2- نحن ابناء الهامش في الماضي والحاضر واللاحق منذ لحظة الوعي المبكر،نقف الآن اكثر تمييزا واوضح صورة،لاننا نحمل على قمصاننا وشم عرس الدم، فاض به علينا احد رموزنا الذي قضى عمره مهمشا،ملاحقا بجوعه ومخاوفه حتى داهمنا القتلة من خلاله،نحن الهامش المنفي في لغة السياسة اللائذة بحمايات الاسيجة،وقًعنا عهدا ازليا وشريفا مع الكلمة التي كانت مبتدأ،من اجل ان تظل خالقة مالكة لطاقتها،ارجوكم افسحوا مجالا للهامش كي يمر، لأن الحياة العراقية بانتظاره، افتحوا الابواب كي يعاود قاسم عبد الامير من خلال الشرفاء فكره النقدي. 3- هل يصدق احد منا ان يتحول وطن مثل القلب الى عقرب تأكل شجرة السنديان؟ ولماذا نبقى مسحورين بسرود الندب؟ نحبك بها الفواجع ونرمم الخسارات وكأننا مأخوذون بعود الرثاء الابدي .. الى متى ايها الدم تنطرك الارض وتعطل في الحياة مباهج القلم الجليل؟ الى متى ايها العنف؟ انا اعرف انك ستلملم علاقتك الدموية،لتفسح مجالنا الارض لورود البابلي المهذب قاسم عبد الامير في سيادة كاملة ووحدة ابدية بيرقها الحرية وزوال الاحتلال البغيض،ان استشهاده كان اصطفافا فريدا من نوعه،وحزن اللافتات بسوادها على الجدران دليل على ذلك. ايها الاصدقاء،كان اخا وعشيرا وصديقا لنا،نحن اكثر تباهيا وفخرا بتاريخنا وإيًاه وبلحظة إنبعاثنا وإيًاه. أمير نائم وسط البياض***
متوج بالمحبة، والكلمة بياضه، باقية تومئ له وتؤشر لنا مكانه امام منصات الكلام. أمير الشفاهية وسيد المرويات التي عرفته بوقت مبكر. متوج بالحنين الذي تركه لنا، والزمنا باختياره لوناً واعطاناً شجاعته يقظة الامراء البواسل الذين كان الانتماء صفة لهم منذ الازل وحتى الابد. انه حكايتنا اليوم.. حكاية بياضه وتوسلنا بحيازة بعض منه. امير مستلق في تاريخنا الحي، وهو لون الكلمة وصفاء ذاكرتنا. لقد تبادلنا الخوف معاً وصار صديقنا الوفي ملاذاً للحظة المستريب، وسيجنا بأمان الورد الذي علمنا الغناء وايقاع الربيع في صباحاتنا العائدة باجنحة فيوض الجلالة وانسجام مفاهيمه الربيعية ونبل روحه الطافية بعشق صاعد نحو البقاء والمثول في خميس فعاليتنا الثقافية، ونحن نمارس هوى ازاحة السوادات عن بياض الكلمات ونحن اكثر سعادة باتساع ما يريده الناس.. امير نائم وسط بياضه ومروياته المتروكة ارثاً لمن يريد الانتساب لها والتعلم منها، هل هي مفارقة ان يصير الامير سادناً للكلمة، وهم امراء القتل والظلام؟ هل هو صراع الامراء؟ لقد انتصرت امارة التوحش في زمن همجي، لكن زوالها آت ونعرف باشكال تلاشيه. كل شيء فيه جليل ورزين، مهيب امير في الذاكرة والتاريخ، ومرتضى بهما، حتى نلتم حوله... نقترب منه، يدنو الينا لنصبح معاً مساحة بياض الحلة وصوت موروثها الممتد صاعداً وشاخصاً امامنا، مغذياً اجيالنا بابهة ان يكون المثقف شريفاً وطاهراً ونقياً بحرفه وصوته.
ايها العراق هنا ولد الامير،وفي الحلة غاب الورد هاوياً مثل شجرة. انظروا، وكلما رأيتم قمراً.. حدقوا جيداً، سترون اميراً نام وسط بياضنا وهو يومئ لكم كي تستعيدوا ربيعه ونتآخى معه حتى الابد.. تعالوا معي لنقرأ الامير في بياض كلماته.
*كلمة الروائي والقاص والباحث المعموري في كتاب"النور المذبوح". ** كلمة اخرى للمعموري في الكتاب ذاته . *** وايضا المعموري يكتب في الذكرى الاولى لاغتيال قاسم عجام ضمن ملف خاص في جريدة"المدى".
|