ما لون البنفسج بعد رحيل طالب القره غولي*

تاريخ النشر       24/05/2013 06:00 AM


علي عبد الامير

لا جديد في ان يموت مبدعو العراق المعاصر وبناة دعائمه الروحية، في نسيان واهمال، على الرغم من رفعة نتاجهم واصالته، وعلى الرغم من سيرة مكابدة واجتهاد.

لا جديد في يوميات الموت العراقي المعلن.. غير ان اللافت هو ان يموت "ابو الغناء العراقي المعاصر"، الملحن الذي من النادر ان يكون اسمه غائبا عن ارفع الغناء وارقه واجمله واكثره شجنا في العراق خلال السنوات الاربعين الماضية.

الراحل طالب القره غولي
 

وفيما قد قد تبدو البلاد، اي بلاد، في لحظة ما وكأنها يتيمة ... فان العراق في الخميس 1605-2013 ومع رحيل ابي غنائه المعاصر... يبدو وكأنه يتيم الروح.

هو الذي قدم درسا في لحن غناه بنفسه، وعجز عن ادائه افضل الاصوات، لحن "هذاك آنا وهذاك انت" وفيه تلوينات نغمية معاصرة على روحية الغناء العراقي الاصلية، ناهيك عن نص يزاوج ببراعة بين الموضوعي (صورة الوطن والمدينة والنهر) والذاتي (مشاعر رقيقة يمكن ان تكون موجهة للحبيب).

ومن ذلك الدرس اللافت الذي قدمه في سبعينيات القرن الماضي، ويمكن ان يرقى الى مرتبة الاغنية "الوطنية" الاجمل في تاريخ العراق المعاصر، الى لحنه الذي نسجه باتقان مبهر في اغنية "حاسبينك"، التي قدمها بطريقة روحية نادرة، المطرب فاضل عواد. اغنية حب ترقى بالمخاطب الى ارفع مستويات السمو الروحي، ولانها كانت كذلك، لم تتردد "الفضائية العراقية" ايام النظام العراقي السابق في مسخ غزلها الرقيق وحولته عبر مونتاج صوري الى عمل يتغنى بـ"القائد الفذ" صدام حسين.

صحيح ان ابن المدينة الجنوبية، الناصرية التي منحت العراق المعاصر اسماء كبيرة في الشعر والغناء والسياسة ايضا،  لم ينج من فخ "اغنية الحرب" التي سادت بحسب "التعبئة الاعلامية" الرسمية في سنوات الحرب العراقية الايرانية، الا انه لم يتخل عن الجانب "الفني" في الحانه لصالح "التحريضي"، وصارت "اهزوجته" المعنونة  "منصورة يا بغداد"، تعويذة وطنية، كما ان الحانه التي ادائها مطربون عرب بينهم وردة الجزائرية، وديع الصافي، وسميرة سعيد، ظلت قادرة على التأثير العميق بالمشاعر حد اليوم.

 

كانت البداية الحقيقية للمولود في ناحية النصر القريبة من الناصرية العام 1939، عبر اغنية " يا خوخ يا زردالي" ( أي الخوخ غير الناضج) التي كتبها شاعر كان يقضي عقوبة في سجن بسبب نشاطه الشيوعي، وجاءه خبر زواج حبيبته برجل آخر، لتصبح الاغنية فور تسجيلها اذاعيا في اواخر ستينيات القرن الماضي، علامة على غناء عراقي فيه نفحة التجديد اكثر من واضحة.

"غير شكل" مع قصائد مظفر النواب 

عمله المميز التالي كان عبر تلحين قصائد مختارة من شعر مظفر النواب، بالدارجة العراقية، وتحديدا في اغنيتين شكلتا ملامح عميقة في تجربة صاحب "الغناء الدامع"، المطرب ياس خضر، لاسيما انه بدأ تقليديا وفجا، حتى عبر الى ضفة اخرى صحبة القره غولي الذي صاغ " روحي" ثم "البنفسج"، اعتمادا على شعر النواب المغرق بالرموز والاشارات لكنه الحافل بنبض جنوبي عراقي مجروح وشجي دئما. ومع اشتغال القره غولي على شعر النواب، انهت الاغنية العراقية مرحلة تقليدية باشكالها المتعددة: غناء المدينة، الريف والبادية وحتى المقام البغدادي، لتدخل مرحلة التجديد، حد ان تأثير الراحل في الغناء العراقي، جعل كثيرا من المهتمين نقدا وبحثا، يصفون تأثير صاحب " تكبر فرحتي" بانه التأثير ذاته الذي تركه الراحل بليغ حمدي في الغناء المصري المعاصر، وهذا يبدو صحيحا الى حد بعيد لاسيما في الحانه التي تحفل بمقدمات موسيقية مطولة لم تعرفها الاغنية العراقية من قبل، فضلا عن التركيب الموسيقي المكتوب لتنفذه الاوركسترا الكبيرة.

مرارات الوطن و... الغربة

مع تجربة العقوبات الدولية المفروضة على العراق بعد غزوه الكويت، العام 1990، بدأت مرحلة من الهدم الاجتماعي والفكري والثقافي، فتراجعت علامات الجدية، لصالح تجارب هجينة في النتاج الفكري والفني والادبي، رعاها عدي صدام حسين، الذي سيطر على اكثر من مؤسسة صحافية وثقافية وفنية، فلم يعد والحال كهذه، امام علامات جدية في الفنون والموسيقى بخاصة، سوى الانكفاء والتراجع، ومنها طالب القره غولي الذي لم يستسلم، وظل يقدم الحانه لمن يقدّر حقها، فغنى له مطربون مكرسون مثل سعدون جابر، مثلما غامر برعاية اصوات شابة، كما مع صوت المطربة سيناء.
بعد العام 2003 ، ومع سيادة قيم التحريم للفنون، وفي مقدمتها الموسيقى والغناء، ومع تراجع قيم الدولة المدنية وهدم مؤسساتها، وجد القره غولي في دمشق، شأنه شأن كثيرين من اهل الفنون والثقافة العراقيين، ملاذا ممكنا، لكن أي ملاذ ممكن لمن كان طين الفرات نبضه الروحي بل دمه، ولمن كانت قصائد الجنوب واحزانه واشواقه، نسيجا روحيا؟ فكان اشبه بعاصفة اودعت حجرة بجدران كونكريتية، حتى ان كانت تأكل ذاتها ولتصل حد الخفوت.

من دمشق، احس بعلامات مبكرة للموت تسري في جسده، عوضا عن الحياة التي كان يلخصها طين الفرات،  ليجد عبر المشاركة في حفل فني للجالية العراقية والعربية في السويد، فرصة للعلاج من "السكري" وتأثيراته المدمرة، ليخضع هناك الى عملية بتر جزء من ساقه، ليعود الى وطنه بروح ثكلى وساق مقطوعة، كأ،ه كان يسابق المصير، وليحقق رغبته في "موت آمن" بين أهله وعائلته ومحبيه وزملائه، فنعشه كان على اكتاف محبين من طراز خاص، ليس اقلهم ابن مدينته المطرب الرقيق حسين نعمة.

موت الموسيقار طالب القره غولي، وفي اهمال رسمي واجتماعي، يأتي في تتابع مريع لمسلسل موت المبدعين العراقيين دون أي اشارة تقدير يستحقونها، وهنا يوجز الشاعر مروان عادل حمزة يا الله، مفارقة عراقية بامتياز : الحياة تتألق للقتلة والفاسدين، وتنفتح كبئر عميقة لمنتجي الجمال ومنهم صاحب اغنية "إعزاز" :" هذا وترٌ آخر ... ارجوك ياربّ .. ألستَ تقول انّك قادر على كلّ شيء !! آمنّا بآجالك .. لكنك تقول انّك تقدّم وتؤخّر بها كما تشاء ... ياربّ نحن بأمسّ الحاجة اليهم الآن !! ياربّ لديك الكثير من السفلة والقتلة !! فاقضّي وقتك بهم واعطنا مهلة نتنفّس بها احبّتنا .. أرجوك ياربّ "!!
 
* نشرت في ملحق المدى عن الرحل القره غولي


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM