لم تك الحياة مثالية، لكنها كانت اكثر رحمة بالساعين الى فرح انيق وحلم نظيف، اكثر انصافا بمن تغويهم فكرة في كتاب او مشهد في فيلم، واكثر انسجاما مع من كانت تغويهم نغمة في لحن ورفة شجن في اغنية. هكذا كانت الحياة في بغداد اواخر ستينيات القرن الماضي، وعلى الادق حياتي الشخصية: تطلع بلا حد الى الجميل المدهش المختلف، افلام سينما غير تقليدية (تأثير بارع للموجة الفرنسية الجديدة)، كتب وافكار غاية في الجدية، تبدو حينها اكبر من عمري، لاسيما بالكاد انني انهيت المتوسطة وذهبت الى اعداداية المأمون، التي قلبت حياتي رأسا على عقب، وفيها خبرت التمرد الفكري والثقافي والموسيقي، وفيها احببت الانجليزية جدا لاسيما ان استاذنا فيها هو الناقد المعروف ورئيس اتحاد الادباء والكتاب العراقيين فاضل ثامر، فضلا عن مغامرة جديدة اسمها اللغة الفرنسية حين تم اختيار مدرستنا كواحدة من ثلاث لتجريب تعليم لغة الشاعر رامبو في المدارس العراقية، الى جانب الدور الساحر لاستاذ الموسيقى وغرفته التي كنت اجدها عالما مدهشا بالالات وبخاصة الغراند بيانو والابواق والكمانات، ثم تجربة لي في العزف على الغيتار.
في العام 1970 ودعت تقليديات الاغنيات العربية والعراقية لادخل في عالم اغنيات البوب، ومن بين الاغنيات كانت الجوهرة النغمية " فينوس" التي اداها الفريق الهولندي الاصل "شوكينغ بلو" التي وصل صيتها الى بغداد في وقت ليس بعيدا جدا عن الوقت الذي كانت فيه الاغنية قد تربعت فيه على عرش الاسطوانات الاكثر مبيعا في بريطانيا واميركا، ذلك ان السر هنا يعود الى ذواقة "اوادم" في قسم الاسطوانات في ما هو اول "مول" في الشرق الاوسط: "اورزدي باك" الذين كان يحرصون على استيراد الافضل والانجح والاجمل في عالم النغم.
هذه الاغنية دفعت كثيرين من نجوم تلك الايام الى اعادة تقديمها ومنهم صاحب "ديلايلا" توم جونز، ببحة صوته الممميزة، ومعه خبرت لحن "فينوس" يوم كنا في سفرة لمدرستنا الى "اثار بابل"، وكنت من بين قلة يتوفرون على جهاز غرامفون نقال يشتغل بالبطاريات، وهو ما جلبته معي الى السفرة، لاضع عليه هذه المرة اسطوانة "فينوس" بصوت توم جونز، لتبدأ مجموعات من اصحابنا بالرقص والغناء صحبة توم جونز الذي كان "هزنا" جميعا باغنية "شي از أليدي".
الغريب هو ما حصل في غروب ذلك اليوم، وهو ان سائحا يابانيا تقدم نحوي ليسألني، بعد ان قضى فترة على ما يبدو في مراقبتنا: لماذا انتم اولاد فقط ولا تشارككم البنات؟ وتأثير نشوة النغم واول تجربة مع كأس بيرة، اجبته: ديننا لا يسمح لنا بالاختلاط مع البنات؟
لا اعرف كيف خرجت مني هذه الجملة، مع انها ليست دقيقة في توصيف الحال التي كنا فيها، فمدرستنا للطلاب فقد، وكان بامكاني ان ارد على سؤاله بهذا المعنى، لكن "وعيا متمردا" على ما يبدو نهض في مبكرا تولى الاجابة على سؤال الياباني الذي كنت اتحدث معه بالانجليزية وبطلاقة لم ازل الى اليوم احسد نفسي عليها.
عن تلك الايام وتلك الاغنية "فينوس"، وليس بعيدا عنها، وان كان الامر في منتصف السبعينات يكتب حارس النغم الغربي الجميل في بغداد اليوم، نشأت مجيد :
"ملاذ.. (اسم عازف) كان مركز شباب الأسكان هو المكان الذي التقيته فيه لأول مرة بملابسه الغريبة الأطوار وتسريحة شعره المسترسلة متجاهلا وجودنا أنا وكريم البكري وجاسم العزاوي ( الجيل الموسيقي الجديد) وهو يؤدي هذه الأغنية الفريدة بحبكتها ولحنها وأداؤهها الجميل في غرفة تمرين الفرقة الفقيرة الأنارة والمدهونة ببوسترات لدهاقنة فرق البوب المشهورة في ذلك الحين من أمثال تي ريكس وسانتانا وجيمي هندركس وغيرهم بقصاصات من مجلات البوب ميوزيك الرائجة في بغدادنا ذلك الحين، حيث مثل التحدي الأكبر لي وأعتبرت مجرد التفكير بعزفها في ذلك الزمن معضله حيث لا أنترنيت يشفع لي ولا فيديو يتيح لي كيفية أداء تلك الثيمة المبجلة وسي في كل عازفي الأكورد أقراني، ولكم أن تدركوا المخاض الطويل لفك طلاسم هذه الأغنية بريكوردر متهالك وكيتار يكاد يكون محلي الصنع أمام كيتار ملاذ المترف والذي ما أن أكمل أستعراضه أمامنا ليخزنه بعدها في كيسه والذي لم يكن أقل ترفا من كيتاره ويودعنا بأبتسامة ملؤها التحدي مفادها (هل لكم أن تفعلوها ؟)بعدها آليت على نفسي أن أعزفها وأدرب كل الموسيقيين القريبين مني عليعا ولأرفع شعار (الموسيقى ليست حكرا على أحد ) تحية لملاذ الشاب الكرخي الوسيم والموسيقي بالفطرة والذي أختفى بعدها في خضم فورة الموسيقى السبعينية ولم أسمع بعدها عنه والذي أجج روح التحدي فيّ وكريم وجاسم".
الاغنية ذاتها "فينوس" اعاد تقديمها فريق نسوي بريطاني اسمه "بانانا راما" في ثمانينات القرن الماضي، وهنا اخلت بغداد مجد الحالمين والمغامرين من امثال ملاذ الكرخي وكريم البكري وجاسم العزاوي و نشأت مجيد وغيرهم من الحالمين، لنجوم واصدقاء جدد اسمهم : نجوم "بغداد اف ام":
د مهيمن نوري جميل، الطيار رعد دراز، المهندس صباح هاشم امين، عدي لطفي وغيرهم. وكانت الاغنية تحمل اشارتين: دعوة للرقص في امكنة بغدادية نظيفة، واخرى لاستعادة المدينة التي كانت الحرب قد انهكتها ولكن مع نسائم من خريف 1970 الجميل الذي بدأت فيه ايامي الاولى في اعدادية المأمون، ولحظات استماعي للاغنية الاصلية وعزفها لاحقا اول مرة.