نقد أدبي  



حين يهدأ الضجيج ...أين ستكون كتابتنا؟

ِعلي عبد الامير

تاريخ النشر       09/09/2012 06:00 AM


لم اقصد الحوار مع الشاعر الفلسطيني غسان زقطان  الذي كانت لي معه رفقة احسبها طويلة من خلال نصوصه، وزيارته الاولى لبغداد (مربد العام 1989)، فقد قرأته اول مرة عام 1986، في ملجئي الصخري عند سفح من جبال جوارته – اقصى شمال شرق العراق – عبر نص له في مجلة " الكرمل"، وتوقفت حينها عند طريقة مختلفة في تحويل "الاجتماعي" الى مساجلة شعرية وفنية خالصة، وها هو الآن في بغداد مرة اخرى، يدي على كتفه وعناقنا كان مشهدا مؤثرا في باحة فندق فلسطين.

علي عبد الامير وغسان زقطان بغداد 1989
 
 نعم هكذا عرفته وتأكد لي لاحقا، فهو يكاد ان يكون مثقلا بإغناء تعبيريته كشاعر عن مجموعة مفهومات، اجتماعية سياسية تلاقيه بالضرورة يوميا كفلسطيني مشغول بقضيته، وكإنسان على المدى الابعد يشهد لهذا العصر تحولاته، انهياراته بالاحرى !! 

وضمن هذا كله كان غسان يطل على المشهد الذي ينتظم فيه ويطل على العالم والاشياء، انه يبعد صفة "البطولة" عن هذه الوقفة حتى في احتدام المواجهة، بل انه في نتاجه قرأ "التغيير" الاجتماعي حسب وثائق ثقافية، حيث يؤكد ان البطولة كحدود توصيف لم تعد تستحقها المعاني الكبيرة التي "أشبعت تضخيما وأشبعت المنشغلين فيها وهما" و "البطولة" تظل مقترنة بموصوفات اخرى ظلت في زحمة هذا الانشغال واللهاث خلف المسميات الكبرى، شبه غائبة.                                                   

فالبطولة هي للاشياء الصغيرة، المنسية – الحاضرة كتفاصيل تتواجد في اركان الحياة وتلطف من مشهد قسوتها الآخر وبالذات حين تقترن انسانيا بالغياب المجحف للروح وتصغيرها من اجل إعلاء شأن القضية الكبرى، هذه الانشغالات توجها غسان زقطان بأن منحها كتسمية، عنوانا لمجموعة شعرية هي "بطولة الاشياء"، ولم تتوقف القضية عند حدود التسمية ولا في انعكاساتها عبر النصوص، بل حاول نشرها في نسيجه الحياتي الخاص، فبدأ متماسكا مع نفسه حين صحا على انهيارات بنى كانت شاهدا ذات يوم على صحة مسار واختيار فكري.

عن هذا كله ... عن توتر ظل يحكم الكتابة الشعرية العربية بالاخص، والكتابة بشكل عام ومنذ اكثر من ثلاثة عقود، كونها بدرجة او باخرى، استجابة لعناصر الاضطراب الاجتماعي – السياسي ومساجلة مباشرة، بل خطاب مثقف لها، رحت اسأل ( غسانا ) كوننا الآن في فترة وعي مناقض للسيرة الاولى، وعي ابتدأ من انهيار القضايا الكبيرة ومسيرا نحو الداخل : اين ستكون مساحة كتابتنا تلك التي شهدت تلك الاشتعالات"وهل ترانا سنظل نتعامل مع هكذا نتاج ثقافي لم يعطنا سوى لافتات، إن كنا بحق نخلص لقيمة اننا ننتمي للمعرفة وللمثاقفة الحية" !!                                                      

نعم، نعم هي هكذا – يقول غسان – وعناصر الامل في كل النصوص التي اراها قادمة، والمناهج "المعرفية" القادمة، ستتوقف عند هذه القضية، فهي إن ارادت الخروج بازمتها الراهنة المميتة لن تجد غير هذا من سبيل، عليها التوقف عن معاطاة "الايديولوجيا" وتقديسها، ليس بمعنى الهدم "للمنجز" وكفى، بل اتحدث عن الاضاءات – الشخصية التي سترتهن امامها سيرة الكاتب الابداعية، وضمن هذا لم أعد افاجأ بما ينتجه الشباب في الكتابة الشعرية وشتى النتاجات الفنية، فهم تلمسوا المشهد القديم وبدأوا بعد وعي شاق التأثير في ملامحه وتكوين مشهدهم الخاص. انني لست بداع الى "عزلة" ما، بل لانشغال في الحياة وفي المعرفة ايضا ولكن دون ولاءات عمياء لاعلانات كبرى، فقصيدتي مثلا، تكاد تشبهني او هي كذلك، انشغالات الحاضر ولكنها ممتدة الى بقاع قديمة في داخلي، مناطق لم تزل ناشطة ومؤثرة، وبالنسبة لما قدم من مشاريع ثقافية، ومناهج امتدت الى اقصى احتمالاتها للتحقق، فلا بد من مواجهتها، فنحن قرأناها، ولا بد من الكشف نقديا عن عيوبها، هي لم تحقق الاستجابات التي تفترضها البواعث الاساسية لها، متشابهة على الرغم من ورودها من مناطق مختلفة ويظل الشاهد الاكبر على تشابهها، كونها فشلت تماما في ايصال وعينا الى مستويات معقولة تمكننا من وعي كل ما يحصل.

كمحاور لم اكنه، كنت قد مررت الى غسان معلومة، تتضمن خشيتي من تحول الارتداد عن الكتابة المؤدلجة الى تيار سهل وباعلانات مجانية ستتحول الى "جمودية" اخرى، فيسارع للتدخل فيمد يده النحيلة:" لا فذلك سيشكل خيبة اكبر لنا، انا لا اقصد التحول الجماعي، بل الشخصي المتفرد، وسجالا ثقافيا حيا يحتمل كل الاختلافات وحسب مداخل للمعيوش ومداركه نأخذها لطرائق وعينا، ثم انني اعتقد ان الحديث عن "الخيبة" يكفي" ..وهكذا انا ايضا ...                                                            

 

* مقالة نشرت في جريدة "الاهالي" الاردنية  3-3-1994



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM