طه محمد حسن*
هل حقا هوى ذلك النجم المضيء في سماء حياتنا ؟ وهل حقا جف ذلك النهر المتدفق بالعطاء والحياة ؟ أيمكن لكل رصاص القتلة أن يسقط نجما، أو أن يقتل نهرا؟ أقسم يا ابا ربيع الحبيب انك ما غارتنا إلا جسدا، فأنت الذي أقمت عروش عطائــــك وإبداعك الإنساني النبيل في قلوب وضمائر محبيك وغدوت بإرثك الثقافي المتدفق منجما كبيرا من مناجم ثقافتنا الوطنية فكنت بحق احد أهم رموزها ..... وأقسم يا قاسم انك غادرت عالمنا المليء بالخطايا بلا خطيئة، فكنت ناصع البياض في قلبك وروحك، ذلك البياض الذي أرعب قتلتك وهم المدججون بالرصاص والحقد والهمجية . لقد عرفناك فنارا يضيء ليالي حياتنا بالامل الدائم، إذ تمزق بضوء حكمتك ومحبتك وإنسانيتك كثافة الظلام الجاثم فوق الروح في كل سنوات العنف والدكتاتورية ولم ينل منك كل ذلك الظلام والخراب والدم، فكنت تتحدى بعراقيتك الصلبة التي امتلأت بها روحك وفكرك المضيء ذلك الطوفان الأسود بحضورك البهي في كل مواقع العمــل والإبداع ....
الراحل قاسم عبد الامير عجام
كان يزرع في كل المساحات التي تحتضنه قيما وأفكارا إنسانية تبشر بالحرية والجمال وتأسيس قاعدة رصينة لثقافة وطنية عراقية مشرقة. ولقد كان يغذي فكره وثقافته وإباعه بالخلق والسلوك الرفيع الذي تفرد به، كان يشع نبلا وطيبة وتسامحا وتواضعا وكرما، وكان قلبه الكبير قد اتسع ليحتضن الجميع بمحبة حقيقية. كان فرحه الحقيقي حين يعطي الآخرين، وهو الواهب أبدا محبة وفكرا وسلوكا راقيا قلّ نظيره في ذلك الزمن الأغبر الذي تربع فيه الإنتهازيون والأميون على منابر الثقافة! فجاؤوا بالظلام ليحاصروا بؤر الضوء المتدفق للخطاب الثقافي الوطني. ولم يكن قاسمنا الرائع مثقفا وناقدا وباحثا وعالما كبيرا فحسب، بل كان إنسانا كبيرا، فجاء عطاؤه في كل الميادين متميزا وأصيلا وعميقا، وكان متنوعا وثريا بذلك التنوع الذي أضاف للثقافة العراقية رصيا كبيرا من عطاء لم يجد الكثير منه طريقه للنشر في سنوات الاستبداد والقمع، فلقد كانت الخطوط الحمراء التي شرّعها فاقدوا الذمم والضمير والشرف من مداحي الطاغية مقصلة لكل المثقفين الأحرار.
أنبئك أبا ربيع انّ القتلة ما زالوا يزرعون في نفوسنا الفجيعة كل يوم بالعقول الوطنية الشريفة التي نذرت نفسها لبناء عراق ديمقراطي حر، وكنت ياسيدي الأول على قائمة الشرفاء المطلوبين. حين أطلقت صرختك المدوية "دونكم مقدمات ومحرمـات الخراب في الثقافة والجامعة والحياة" وتشريحك الرائع لجثة العنف والفاشية التي مايزال الظلاميون يحلمون بعودة الحياة لها. فتحول قلمك المبدع إلى مشرط حادة يمســك به جرّاح رائع لينبيء الجميع بأوكار الشر التي تربصت فيها الكلاب المسعورة لتفتك بالشرفاء من أبناء هذا الوطن المنكوب.
ولقد كان القتلة يعرفون ضآلتهم وخستهم وأنت تمسك بموقع إدارة شؤون ثقافة العراق، فكان حوارهم معك بالرصاص فهم لا يجيدون حوارا سوى مصادرة الحياة بكـل أشكالها والعيش في الحفر العفنة والسباحة في برك الدم. ولكن أيعقل أيها السادة هــــــــذا الصمت المهين على انهار الدم العراقي الطاهر المهدور بالرصاص والسيارات المفخخة والعبوات الناسفة والقنابل الموقوتة ؟! أيعقل كل هذا الموت اليومي المجاني..ولاقصاص من القتلة ! بسم الله الرحمن الرحيمك"فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض"صدق الله العلي العظيم .. مجدا لك أيها الماكث في الأرض والقلب والروح إلى قيام الساعة مكوثك فينا أيهـــــا الحبيب قاسم، فلقد بقيت العمر كله تنحت في حجر المحنة والقسوة الكلمة الحـرة والصادقة التي أردت لها أن تضيء ليل العراق الطويل وان تفتح بكلماتك القوية والنبيلـة كل النوافذ لتهب على هذا الوطن المستباح نسائم الحرية والتقدم. فطوبى لك يا شهيدنا الأحب ونحن نحتفي بك برغم نزيف الفجيعة الذي لن يذبل رمـزا حيا ومتجددا بالحياة لشرف الكلمة الصادقة والمقاتلة التي سقطت من أجلها للثقافــة الوطنية العراقية.
وستظل يا أبا ربيع كل أماسينا الأدبية والثقافية والعلمية مشرعة أبوابها بإنتظـار حضورك البهي، وستظل تعطي حياتنا نبل وعمق إبداعك الذي سنضمه في القلب عرفانا لإسم كبير أحببناه حد العشق. فأنت حقا "باق وأعمار الطغاة قصار". وسلام عليك يا قاسم يوم ولدت، ويوم قبضت على جمر الثقافة الوطنية مناضلا صلبا من أجل الدفاع عنها، ويوم سموت شهيدا من أجل العراق الحر. ومجدا لك أيهـــــا الباسل بن نادر وأنت تحلق في سماوات الخلد شهيدا. فتقاسمت الشهادة مثلما تقاسمـت الحياة الحميمة والصادقة مع رفيق عمرك وصديقك الأوفى قاسم عبد الأمير .. فكانت شهادة سموت بها أيها العزيز وفاء لقيم لن يعرفها قتلتك.
*كلمة عائلة الراحل قاسم عبد الامير عجام والتي كتبها والقاها في احتفال اتحاد ادباء بابل صديقه وتلميذه وابن شقيقته طه محمد حسن.
|