نقد أدبي  



عراقيون في عمّان: ملامح من هجرة ثقافة مثقلة بالحروب والقمع والنفي (3-3)

تاريخ النشر       09/09/2012 06:00 AM


الجيزاني، حسن والنصير: كتاب الصفحة الاولى
عدد من المثقفين العراقيين الذين غادروا البلاد الى الاردن بعد هزيمة النظام المدوية في حرب الخليج الثانية 1991 وقمعه الدموي للإنتفاضة الشعبية، كانت لهم خطوة اولى ضمن نهج سيتصاعد ويصبح قائما على اشهار المواقف المعارضة لسلطة الطغيان في بغداد.
وبدأت الموجة الاولى من تيار المواقف المعارضة لنظام صدام، مع مواقف " رائدة" للشاعرين زاهر الجيزاني ( الذي سافر لاحقا الى دمشق للاستقرار فيها) وصلاح حسن ثم تلاهما الناقد ياسين النصير، حتى وصل ممثلو هذا التيار الى احدث اجيال الأدب والفن في العراق.


زاهر الجيزاني: رائد الموجة الثانية

اعلان المواقف المعارضة لسلطة النظام في بغداد، اخذ اشكالا مختلفة تبدأ من الموقف السياسي المباشر ولاتنتهي بالنص الأدبي والعمل الفني، مرورا بندوات السجال الفكري حين بدأ الجو السياسي الأردني الحاكم بقبول توجيه النقد لسلطة الحكم في العراق من قبل معارضيه من المثقفين الذين باتوا يشكلون وجودا لافتا. اعلان تلك المواقف جعل المثقفين معرضين لخطر ملاحقة السلطات الصدامية، وهو ما جعل وجودهم في عمّان، وجودا بين نارين : نار ملاحقة السلطة لمعارضيها وان كانوا خارج البلاد، ونار الإقامة غير الرسمية في البلد .
وللخروج من هذه النار اوتلك، صار الأردن بوابة لأمكنة اخرى يقصدها المثقفون" المعارضون"  أو أنهم يتخذون منه مستقراً ولو إلى حين، عبر العمل في منابر ثقافية وفكرية واكاديمية او العمل في المؤسسة الإعلامية لحركة الوفاق الوطني العراقي المعارضة والتي كانت فتحت مقرا لها في نيسان العام 1996 وضمت مثقفين واعلاميين عراقيين بارزين.
ورغم تطمينات جراء الإنتظام في العمل مع " الوفاق" عبر توفير الحماية والإقامة السنوية، الا ان عددا كبيرا من المثقفين آثر التقدم بطلبات اللجوء الى "المفوضية السامية لشؤون اللاجئين " التي وفرت بدورها لنسبة غير قليلة من مثقفي العراق الهاربين من " جحيم البلاد" امكنة آمنة في بلدان اوروبية: هولندا، السويد، النرويج، الدانمارك وفنلندا الى جانب اميركا، كندا، استراليا ونيوزلندا.
لا يقين و خوف من ظل الشيطان المديد
وثمة تيار آخر في الوجود الثقافي العراقي بالاردن، ظل مهجوسا بعدم اليقين من اي خيار سياسي وفكري واضح، اكان ذلك مع النظام الحاكم في بغداد ام خصومه، فثمة الخوف من ظل الشيطان المديد القادر على ان يصل الى مناطق بعيدة فكيف بالاردن القريب؟ تيار مثلته مجموعة من المثقفين العراقيين ممن آثروا الصمت السياسي اختيارا ام اضطرارا. فثمة من كان منهم يوضح بمناسبة ام بدونها، ان سفره كان من اجل البحث عن فرصة افضل للعمل،  وان صلاته بالوطن ستظل فاعلة ومؤثرة، كأن نظراءه ممن تحدوا سلطة الموت، فقدوا تلك الصلات!
المجموعة تلك كانت تصل الأردن في طريقها إلى فرص عمل معقولة داخله (الجامعات بخاصة) او تسافر الى ليبيا واليمن وبعض دول الخليج.
مثقفو هذه المجموعة، حتى ممكن كانوا يضمرون موقفا معارضا لصدام كانوا يتهيبون اللقاء بـ " مثقفي المعارضة"، انطلاقا من فكرة ليست خاطئة وشاعت بين اوساط عراقية، تقول ان "القوى المعارضة للنظام مخترقة من جهات كثيرة" وان "تلك القوى ليست نقية وطنيا في مواقفها وخطابها، وثمة اجندات دولية واقليمية تديرها". كما ان الفكرة السائدة بين الاوساط المتعلمة من اكاديميين واطباء ومهندسيين مهاجرين، كانت وصلت بعد خيبات البلاد وحروبها الى خيبة مطلقة من اي مجال سياسي وفكري ينطوي على تأويل سياسي مباشر.
ثمة من كان يصل عمّان بقصد العمل، في جامعات ومؤسسات بحثية، فضلا عن كتاب وصحافيين يجدون فرص عمل وان كانت نادرة في صحف ودور نشر اردنية، وبالرغم من أن مثقفيي هذه المجموعة كانوا يترددون على الأماكن العامة ذاتها التي يتردد عليها الموصوفون بمعارضة النظام، الا أنهم كثيراً ما أبقوا حدوداً بينهم وبين زملائهم في الكلمة مخافة عيون الشرطة السرية وتأويلات رجال السفارة، فيما فضّل عدد ليس بالقليل منهم النأي بنفسه عن لقاءات وأمكنة "تجلب الشبهات" وان كانوا يحاولون البقاء ضمن "منطقة وسطى " فلا هم بقاطعي حبل الود مع السلطة، مثلما حاولوا انشاء صلة في حدود مع " مثيري المشاكل" !
وفي كل الأحوال ثمة النقيض ونقيضه دائماً في ساحة العمل الثقافي العراقي شديدة التوتر والتعقيد: المثقف الهارب من جور السلطات والمثقف الذي يرتدي نظارات الرقيب فيلاحق الأول حتى في غربته. لم تكن عمان استثناء بل ربما كانت الأبرز في هذا المجال.
ولم يكن التمييز صعباً بين مواقف شتى للمثقفين العراقيين في عمان، كان ثمة دائماً " الصامت خائر القوى" و"المقاوم بالكلمة وصدق الضمير"، ثمة من يحسب وجوده ( وهذا من حقه ) وفق ما تدر عليه النصوص المنشورة في هذا المنبر الثقافي الأردني، او ذاك العربي حتى وان كان نشر النصوص يتم باستغلال صورة مهينة للعراقي بشكل عام وللمثقف بشكل خاص ( صورة من يبعث الشفقة)، وثمة من يترفع عن سبل ظهور كهذه وفق قاعدة " الوطن جريح بما يكفي".
ثمة بون شاسع بين من يتقاسمون منزلاً مهدماً، سقوف غرفه خفيضة، غير انهم قاوموا الضنك اليومي وجفاف الوقت وشحة الأمل، قاموا وصبروا من اجل خيارين يوصلان الى الحرية : الوصول الى المنفى الفسيح او العودة الى الوطن بعد انقراض ديناصور بغداد، وبين من قضوا وجودهم الأردني في احاديث لاشيء فيها غير اشكال الخديعة، واستغلال الكتابة والمقالة الصحفية في تلفيق قصص " عذاب انساني" وبيعها بدنانير قليلة الى محتاجيها من الواقفين في طابور الباحثين عن اللجوء من المواطنين العراقيين العاديين.
ثمة البون الشاسع ذاته بين " حاجة " العراقي الى نافذة للخروج من سجنه، وابتزازه في نشر قصص "معاناته"، من قبل شعراء وكتاب يعملون او يراسلون منابر اعلامية معارضة، و وضع لوائح بعوائد مالية لقاء نشر تلك القصص، وبين من كانت نصوصهم رسائل حرية العراقي في سجنه، وضمن اجواء السجال حول افضل الوسائل الفنية في عرض محنة البلاد وانسانها.
كان هناك فرق بين من يتحذ المقهى مرصداً يراقب من خلاله حديث المثقفين وحركتهم في تكوين مجموعة للعمل الجدي، ومن يتخذها مكانا يفيض بمحبة الناس وأمانيهم. كل شيء في المكان الأردني كان يشي بالنقيضين. البعض كانت تصله دعوات لحضور" مهرجان المربد " وهو المقيم في عمّان، فيما تصل أخرين هواتف مجهولة تهدد بالوعيد والثبور.
 
مثقفو السلطة وشعراؤها: حيز الاستعراض وتأكيد الولاء
كان يصل الى الاردن، مثقفو السلطة العراقية وشعراء مؤسساتها في إيفاد رسمي لقضاء "أجازة نفسية" في عمّان بعد حصولهم على دعوات من إحدى الواجهات الثقافية والفنية والأكاديمية الأردنية للمشاركة في مهرجانات لاستعراض الولاء للقائد، عبر استثمار جراح العراق في الحروب والحصار. ولأن هؤلاء تنتظرهم عودة سريعة إلى العراق فإن جل ماكان يشغلهم هو تحاشي " مثقفي المعارضة" حتى وان كانوا ممن تجمعهم صلات شخصية بهم، عدا عدد ممن تمتعوا بصفاقة قل نظيرها فهم يحضرون الى اماكن تواجد " المعارضين" ملوحين باشارات التهديد او السخرية في افضل الأحوال مما ينشط فيه كتاب وفنانون .
الوفود الثقافية والفنية التي ترسلها المؤسسة الرسمية كانت أما تصل الى عمّان للمشاركة في فعالية تقام أصلاً في العاصمة الأردنية أو أنها في طريقها للمشاركة في فعالية تقام في عاصمة أخرى. وهي كانت تشهد وجود " عنصر مخابراتي " بينها لضبط تصرفات الأعضاء ومراقبتهم، وبالتالي فثمة عوائق ومخاوف جدية تمنع اتصال كتاب ومسرحيين وموسيقيين مع اصدقاء لهم فرّقتهم المواقف من سلطة الطغيان، غير ان تلك الموانع والعقبات كانت تسقط في " لحظات صفاء" نادرة حين كان يتصل الخارجون من جحيم صاحب " ام المعارك" بتلفونات اصدقاء لهم ليلتقوا خلسة وبعيدا عن عيون الرقيب المرافق في جلسات ليال حميمة، كانت تنتهي باشواق تشبه الإنفاس المنهكة المتقطعة.

* الجزء الثالث من الفصل الاول من كتاب قيد الطبع عن الثقافة العراقية في عمان 1993-2003




 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM