نقد أدبي  



عراقيون في عمّان: ملامح من هجرة ثقافة مثقلة بالحروب والقمع والنفي (2-3)

تاريخ النشر       09/09/2012 06:00 AM


مركب الثقافة المنهوب
للوجود الثقافي العراقي في الاردن وجوه مثلما له اقنعة، فحين نعرف ان مئات سجلوا كمثقفين " تعرضوا الى ظلم النظام في بغداد وقمعه" لدى سجلات " مفوضية اللاجئين "، فهو مؤشر على ان الثقافة كانت قناعا يضعه كثيرون من اجل الظفر بتضامن المنظمة الإنسانية التقليدي مع المثقف. صحيح ان عدد المشتغلين في الثقافة بالعراق يتسم بنسبة كبيرة قياسا الى سكان البلاد، الا ان ذلك لم يكن مبررا لـ"استخدام" الثقافة، ولاحقا استخدام القمع الذي طاول كتابا وفنانين حقيقيين، في ادعاء اوصاف " الضحية" لنيل ثمن محدد من سرد قصص كاذبة امام محامي "المفوضية السامية" وهو هنا " اللجوء".
هنا التقى في الخديعة والإستخدام الرخيص للنتاج الثقافي العراقي، نموذجان، الاول هو الذي يمثله رهط من شعراء وكتاب وفناني مديح السلطة في داخل الوطن، باستخدامهم الشعر والكتابة والرسم والموسيقى من اجل الظفر برضا الحاكم وبشيء من اموال لم تكن برنين الذهب على اي حال، والثاني هو الذي كان يستخدم الثقافة من اجل الظهور بمظهر الضحية والظفر بتوصيف غير حقيقي لـ" المثقف المضطهد". وهو توصيف لم يكن يكلف صاحبه غير حفنة من مقالات رديئة السبك والمعنى، تنشر في صحف المعارضة العراقية على وجه الخصوص فضلا عن صحف عربية عراقية الهوى، كصحيفة" الزمان": مقالات تختصر ذاتها وفكرتها، في رصف اكبر عدد من الشتائم لنظام الحكم في بغداد.


نظرة الى "وسط البلد" من شرفة مقهى "السنترال" حيث مركز تجمع العراقيين الكبير في عمّان
 
وضمن سياق كهذا امتدت قائمة " المثقفين المضطهدين" الهاربين الى عمّان الى نحو زاد على الألف، في مؤشر على حفلة خديعة متواصلة الى اكثر من عقد، حفلة تنكرية استخدم فيها كذابون واميون، مخبرون وضحايا من قاع المجتمع، الثقافة قناعا للظفر بملامح الضحية، وهي ملامح كفيلة بنيل ما عجزت عن تأكيده الوجوه الحقيقية(خذ مثلا الشاعر حسب الشيخ جعفر الذي عجز عن اقناع المفوضية بحقه في اللجوء).
السؤال لم يكن: لماذا ارتضى مثقفون حقيقيون الركوب في مركب واحد مع جموع من المخادعين؟ بل لماذا كانت الثقافة العراقية هشة الى هذا الحد بحيث يمكن وضعها قناعا مناسبا لكل عابر؟
ثمة قلة بين هذه الفوضى كانت تسأل هذا السؤال، وقلة من بين القلة كانت مستعدة لمكاشفة عميقة مع استحقاقات جارحة للسؤال.
ويبدو ان سطوة الشكل الأدبي على الثقافة العراقية بما فيه من " ذاتية" وغياب العمق الفكري، كانت كفيلة عند كثيرين بان يضعوا برشاقة وسهولة قناع الثقافة على وجوههم، فالشعر والسرد النثري متداولان حد الرخص، والفارق بين المهارة والفرادة واللمسة الأصيلة وبين السطو على تجارب عراقية وعربية واجنبية في فوضى كتابة لامراقب نقديا لها، ولا مرجعيات جدية، بات غير محدد الملامح مما جعل مركب الأدب وبالتالي الثقافة مركبا مباحا، يمكن لكثيرين الصعود اليه دون رادع.
هنا يتذكر المقيمون في عمّان من كتاب ومثقفين (خلال تسعينيات القرن الماضي بخاصة) كيف اصبح توصيف " مثقف عراقي معارض وبالتالي مضطهد "، رخيصا ومبتذلا، لفرط ما انتظم فيه من الاميين والمدّعين وانصاف الكتاب والشعراء والرسامين، وهؤلاء كانوا " حقيقيين" في الكشف عن وجوههم التي اختفت الى حين خلف قناع الثقافة، فكانوا ما ان يضعون " البطاقة الزرقاء" في جيوبهم ويصبح " اللجوء" مضمونا  حتى يتواروا عن " المشهد الثقافي" وتصبح المسافة بينهم وبين انشغالات الكتابة، هي ذاتها المسافة التي ما انفكت تفصل بين نص يفتك بصاحبه، وبين نص لا طعم ولا لون ولا رائحة له.
وقائع مثيرة للإمتعاض كهذه لم تفتّ في عضد مثقفين كانت الحقيقة تشغلهم، مثلما كانت اللحظة العراقية براهن وقائعها في لب نتاجهم الذي انتظم في فكرتين جوهريتين: التعبير عن توق وطنهم الى الإنعتاق من رقبة الطغيان، والتزام البعد الفني في اشكال التعبير ادبا وفنا وفكرا.
وبحسب ثنائية " الحرية – القمع" وهي من نسيج ثنائيات لطالما احكمت الحياة العراقية منذ ان انهت مرحلة " التحرر الوطني" تطورا طبيعيا لتك الحياة، امكن تصنيف الوجود الثقافي العراقي في الأردن، حيث يجد المتابع لذلك الوجود، وجوها واقنعة.
 
*الجزء الثاني من الفصل الاول من كتاب قيد الطبع عن الثقافة العراقية في عمان 1993-2003


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM