نقد أدبي  



عراقيون في عمّان: ملامح من هجرة ثقافة مثقلة بالحروب والقمع والنفي (1-3)

تاريخ النشر       09/09/2012 06:00 AM


لم تكن عمّان تشبه اي عاصمة نفي بالنسبة للمثقفين العراقيي ، فهي كانت المحطة الوحيدة التي تسمح للعراقيين بالعبور لنحو عشر سنوات من عزلة فرضت على البلاد بعد غزو الكويت. الجغرافيا ونهج سياسي اردني معتدل عاملان جعلا عمّان البوابة الوحيدة لخروج ملايين من العراقيين، وعرفت مدينة التلال السبعة من حشود الهجرة العراقية ألواناً مختلفة، فالأردن كان بوابة العراق في تسعينيات القرن الماضي بامتياز، اليه جاء المرعبون من الحروب وكوارث الحصارات، الناجون من المقابر الجماعية، اكاديميون هالهم ان يتحولوا الى كيانات مفرغة من الفاعلية العلمية والإنسانية، اطباء ومهندسون اقفلت امامهم المستقبل، عمال حملوا اسئلة الحاجة على راحة اليد، وراحوا يعرضون انفسهم عمالا باجور ارخص من اجل توفير لقمة خبز لإجساد متعبة وارواح اكثر تعب في داخل البلاد.
الى عمّان جاء تجار وقوادون بصحبتهم شابات هن من " الماجدات " اللواتي قال الرئيس المخلوع صدام حسين انه شن حرب الكويت من اجلهن، واليها ايضا جاءت نسوة من اقاليم الجوع والضنك، من اقاليم الفقر في بلاد كان يفترض وبحسب مواردها ان تكون من اغنى بلدان العالم، وعلى امتداد السنوات 1991-2003 كان مشهد النسوة العراقيات المتشحات بالسواد والمفترشات زوايا على ارصفة عمّان والمدن الأردنية الكبرى، تلخيصا مكثفا لمشهد الكارثة العراقية .



مجموعة من المثقفين العراقيين المقيمين في عمان يحتفون بزميلهم الزائر حكمت الحاج بجلسة في مقهى السنترال
 

 لم يقتصر مشهد الرحيل الى الأردن على هامشيي العراق ( هل هم هامشيون فعلا؟)، وإنما شمل وفود النظام الحاكم في بغداد، والتي كانت تمر من خلال الأردن إلى دول العالم المختلفة، ولم يكن غريبا ان يجتمع في مطار الملكة علياء وضمن مشهد واحد ملمحان متناقضان : عراقيون رسميون من وزارات الحكم ومخابراته، ومنفيون وجدوا رحمة من " المفوضية السامية لشؤون اللاجئين" وسماوات مفتوحة للأمل في بلدان مانحة لحق اللجوء بعد ان ضاقت سماء البلاد وشحت على اهلها بالآمان.
الوفود الرسمية لحكومة صدام كانت تتضمن عنصراً من المخابرات، يسجل على الوفد المرافق كل شاردة وواردة، وكان من اختصاصات " العين الساهرة" أيضاً رصد محاولات أعضاء الوفد الاتصال بالعراقيين المقيمين خارج العراق، وإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أن هؤلاء العراقيين كثيراً ما نظرت إليهم السطات باعتبارهم ( خونة ومرتدين وعملاء يعيشون على فتات موائد الأجنبي، ومعارضي فنادق )، فان الاتصال بهم يصبح من قبيل المحرمات التي ان تم تجاوزها، فابواب الرعب مفتوحة.
سفارات النظام السابق كانت صورة مناقضة تماما للمعنى الذي قامت عليه سفارات الدنيا مثلما كانت الدولة التي اقامها " البعث "  مناقضة للمفهوم الذي  ثبتته التجارب الإنسانية المتقدمة، وسفارة العراق كانت في تسعينيات القرن الماضي تكثيفا لمفهوم جعل السفارة محطة امنية بامتياز، دبلوماسيوها هم ابرع ضباط المخابرات، وبما ان وجود العراقيين في الأردن كان يتسم بمتغيرات سريعة، لجهة سهولة الإتصال بالعالم والإنفتاح الكبير اذا ما قورنت الحال بالسجن الذي آل اليه الوطن، لذا كانت السفارة في عمّان نشطة وفاعلة لا في تقديم الخدمات لمواطنيها، وانما لتذكيرهم بان السجّان في داخل البلاد حاضر هنا ايضا ( كان يحرص رجال امن المنفذ الحدودي في طريبيل، على العناية بجدارية ضخمة لصدام وضعت في المتر الأخير لحدود البلاد وتحتها عبارة مكثفة الدلالة تقول : ايها المواطن عليك ان تتذكر ان القائد سيكون معك اينما حللت).
مخبرو السفارة في عمّان متعددون بتعدد الوجود العراقي، فثمة تجار ورجال اعمال مخبرون، وثمة مهندسون واطباء واساتذة جامعة، مثلما كانت هناك نساء مخبرات يبدأن من اللواتي يفترشن الأرض يبعن البضائع العراقية الرخيصة المهربة، ولا ينتهين بسيدات مجتمع انيقات، وثمة ايضا كتاب وصحافيون مخبرون .
ومن هذا المشهد الأخير يمكن قراءة المنفى الثقافي العراقي في الأردن، المنفى المكتظ بنقيضين : فسحة حرية الى جنبها اسئلة الرعب المتمثلة بمخبرين مخلصين لعبارة " تذكّر ان القائد سيكون معك" .
وللعراقيين في عمان، هناك مراكز تجمع باتت معروفة لأي قادم جديد، وهي مراكز تتعلق بشكل أساس بهوية القادمين، فكما للمثقفين مراكزهم ثمة مراكز لذوي المهن والأعمال الحرة والأمر ينطبق على مجتمعات الجامعيين والأطباء والكفاءات الهندسية والمهارات المتعددة وابرزها معارف الكومبيوتر والمعلوماتية.
أبرز الأمكنة التي كان المثقف العراقي الوافد إلى عمان يقصدها هي : "مقهى العاصمة" قبل هدمه في العام 1996 وتحوله فندقا ، " غاليري الفينيق" الذي كان مع الوجود شبه الدائم فيه للشاعر عبد الوهاب البياتي 1991-1998 ملمحا ثقافيا عراقيا بامتياز ، "دارة الفنون"، "رابطة الكتاب الأردنيين"، "رابطة الفنانين التشكيليين الأردنيين" ،" المركز الثقافي الملكي" بمهرجاناته وايامه الثقافية ، مكاتب الصحف العربية في عمّان ووصولا الى " مقهى السنترال "، وهذه كانت الأمكنة العامة التي يعرفها الوجود الثقافي العراقي في الأردن ،أما الأمكنة الخاصة فيبرز بينها: مقر "حركة الوفاق الوطني العراقي" المعارضة ومنزل كاتب السطور المفتوح لزملائه من الكتاب والصحافيين.
عيون المخبرين " الساهرة" لم تكن لتغفل عن هذه الأماكن مجتمعة.
* جزء اول من فصل ضمن كتاب قيد الطبع عن "الثقافة العراقية في عمّان- 1993-2003".


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM