الحياة المدنية في العراق تكافح من اجل البقاء وسط صعود تيارات محافظة

تاريخ النشر       09/09/2012 06:00 AM


بغداد- علي عبد الأمير
ارتبطت الحياة المدنية في العراق، بقيام طبقة وسطى قوامها موظفون واطباء ومهندسون واكاديميون ومثقفون، اغنوا ملامح حياة مدنية حولت ليس العاصمة بغداد وحسب، بل مدنا في الجنوب (البصرة) واخرى في الشمال (الموصل) حتى اواخر سبعينيات القرن الماضي الى حواضر مدينية مؤثرة في خلق قيم ثقافية تبدأ من تذوق الثقافة والفنون ولا تنتهي بملامح تهذيب في السلوك وحسن هندام في اناقة لافتة. غير ان بداية الثمانينيات حملت معها اولى محطات تراجع  تأثير الطبقة المتوسطة وبالتالي بداية تراجع الحياة المدنية، فالحرب التي انهكت البلاد زجت باغلب المتعلمين في اتونها، وراحت المدن العراقية تتلبسها روح "العسكر" بدلا من روح المعرفة والفنون والاناقة في الهندام، بينما سادت ثقافة قوامها سلوك عشرات الالاف من الضباط، وتحديدا اولئك المكونين لقوات "الصفوة" والمنحدرين باغلبهم من مناطق غير حضرية، وتحديدا من ارياف تكريت (مدينة رئيس النظام السابق) وديالى والموصل وكركوك والانبار.


عرض للازياء في بغداد العام 1956
 
هكذا كانت الملامح المدنية في بغداد تكافح وجودها في ظل اجواء كابوسية طرفاها: رعب الحرب الطاحنة من جهة، ورعب ثقافة رجال "الصفوة" الذين تسابقوا الى الحضور في احلى المشاهد المدنية والسيطرة عليها.
وما ان انتهت الحرب مع ايران، حتى ظنّ كثيرون ممن ظلوا امناء لتقاليد طبقة متوسطة راكمت خبراتها المدنية والثقافية طوال اكثر من خمسة عقود، بان الوقت سيعود وسيكون هناك متسع لهك كي نفضوا غبار المعارك ويعودوا الى مشاهد الحياة المدنية التي تقلصت في مدنهم، غير ان غزو الكويت في العام 1990 ضرب تلك الامال بقوة، ومع اقوى حصار عرفه التاريخ الانساني المعاصر، بدت الطبقة المتوسطة في البلاد اقرب الى التهاوي، فيما بدأت "فئات طفيلية" من تجار الحروب والحصار، بالاستحواذ على معظم فعاليات تلك الطبقة وحيويتها، التي ما لبثت البقية الباقية منها ان واجهت خيارين: الهجرة وهو ما اختاره اغلب من تبقى منها، او "التقهقر والانكماش تدريجيا الى مستويات خارج تعريف تلك الطبقة" كما يقول الكاتب العراقي كفاح محمود.
ومثلما احيت نهاية الحرب العراقية الايرانية بعض الامال، احيت مرحلة ما بعد نهاية النظام العراقي السابق في العام 2003، امالا مماثلة بنهوض ما لما تبقى من الطبقة المتوسطة وعودة الحياة المدنية، غير ان  ما بدأه الاميركيون من "عمليات مدنية في الأعمار، بالتعاون مع مجموعات لا تقع تحت تعريف الطبقة المتوسطة، واقرب ما تكون الى اولئك الذين وجدوا في البيئة الجديدة مجالا لتطورهم المالي من خلال العمل مع تلك السلطة، والاستفادة من الفروقات الكبيرة في قيمة الدولار والدينار وقتها، وهم في معظمهم من الأميين والنكرات وبعض الحرفيين والمقاولين الصغار والمترجمين والفاسدين الذين استغلوا عدم دراية القوات الأميركية بطبيعة تكوين المجتمع العراقي، كما استغلوا السلطات الحكومية المستجدة وحلقاتها الفاسدة، وتحولوا بين ليلة وضحاها الى سرطانات مالية، ادعى البعض بأنها تمثل بداية نشوء طبقة متوسطة بديلة لتلك التي هاجرت او اندثرت او تلاشت ابان فترة الحكم السابق" كما يلفت الكاتب محمود.
اليوم وعلى ضوء صعود اجيال عراقية شابة بدأت عبر انفتاح مع العالم، تقرأ واقعها الاجتماعي والانساني وتجده فاقدا لمقومات حياة مدنية حقيقية، لاسيما ان السلطات يحكمها ممثلو اطياف اجتماعية لم تعرف انها من حواضر مدينية بارزة، فان هناك دعوات كثيرة من ناشطين في مجال الحريات، وصحافيين وكتاب وكفاءات علمية ومهنية شابة لتأكيد قيم الحياة المدنية رغم الصعود البارز لقوى تمسك بالسطة اليوم، وهي على الاغلب قوى دينية وسياسية واجتماعية محافظة، تتعاطى بعين الريبة الى دعوات الحياة المدنية.
"ترييف" المجتمع
ويقول الكاتب والصحافي سعدون ضمد "سر المفارقة تكمن بانشطار وعي المجتمع في العراق، فتحت ضربات الحروب والحصار وتغييرات 2003، انهارت المدينة، وتريف المجتمع، وصارت هناك هوة عميقة تفصل بين وعي النخبة الحالمة بالتغيير، وبين وعي المجتمع الرافض لاشتراطات هذا التغيير، ومع انعدام وجود قاعدة اجتماعية توفر شروط قيام الدولة المدنية يستحيل بناء دولة بملامح مدنية، فمثل هذا المجتمع يصبح أقرب للرمال المتحركة التي تزلزل كل بناء".
ويلفت ضمد هنا الى خلاصة فكرية كتبها الاكاديمي العراقي متعب مناف وفيها "هناك بين "المجتمع الورعي" أو الديني الذي ينضبط للشريعة لا للقانون، أو يوزع ولائه بين القانوني والشرعي، وبين "المجتمع الردعي" الذي ينضبط للقانون فقط، وأن الدولة المدنية لا تقوم إلا على مجتمع ردعي، في حين أن مجتمعنا بات ورعيا".
وهناك ناشط مدني يفضل ان يستخدم اسما مستعارا "دولة العراق المدنية" يؤطر نشاطه على الانترنت وبخاصة "فايسبوك"، وعن الامل باستعادة المجتمع العراقي حيوية مدنية ما يقول" هناك امل حقيقي باقامة الحياة المدنية في العراق، هناك افكار تتبلور وهناك حركة مجتمعية رغم بطئها لكنها موجودة، كذلك نحن نعول على احداث حتمية قادمة منها تغير النظام الايراني او ضعف سلطة رجال الدين فيه، وستكون فائدة ذلك كبيرة حيث يقل الدعم للاسلام السياسي عندنا. هناك مبادرات اراها جميلة ومشجعة مثل جماعة "بغداد الفتاة" التي اتوقع لها النجاح رغم افتقارها للتمويل، لكنها ستكون صرخة وخطوة بالاتجاه الصحيح. نعم هناك مصاعب كثيرة ومفارقة كما وصفتها بين من يحلم ويسعى، وبين واقع مؤلم، وتراجع نحو العشائرية وسلطة رجل الدين" .
التفاؤل الذي يسود عند صاحب " دولة العراق المدنية"  يدفعه الى القول "المهم ان الشارع اليوم يبحث عن هذا التحول، فيما تخسر احزاب الاسلام السياسي كل يوم من جمهورها الكثير، والامر يتوقف على كيفية استغلال ذلك وللاسف واقولها بمرارة : لا يوجد جهد منظم للمثقف العراقي لكنه بدأ يعي ذلك".
الناشط الشاب احمد البغدادي يتفق مع الرأي السابق بان الزمن كفيل بالتحول الى الحياة المدنية "طموحنا بمسقبل افضل، لا حد له، اننا نحاول، وبكل امكانياتنا من اجل توعية الناس بحقوقها المشروعة، وبحريتها التي قد تغتصب، ومن اجل ان يحلموا مثلنا بذلك المستقبل السعيد. انا على يقين راسخ من اننا سنثبت اركان الدولة الديمقراطية المدنية، لكن متى؟، هذا ما لا استطيع الاجابة عنه، لكنه سيكون مصير الوطن الحتمي، بعد تراكم المعاناة".
ويرى الناشط المدني المهندس سمير السوداني "انا متفائل بقيام حياة مدنية في العراق وإن تأخر الوقت لبضع سنين، ولكن ستكون. الوعي بدأ ينتشر بين الناس ولكن ليس كما نريد او بالسرعة التي نتمناها، ولكنه بدأ بالفعل، وسيستمر رغم كل الظلام المحيط به. بناء المجتمعات يحتاج الى سنين طوال، وكل المجتمعات المتمدنة لم تنشأ بين ليلة وضحاها ولم تصبح متحضرة بـ"كن فيكون". علينا ان نعمل ونستمر بالعمل وسنلمس هذا التغير حتماً، قد لا اعيشه انا ولكنني شبه متأكد ان ابنائي سيعيشونه، هذه هي قوانين المجتمعات وتطورها".
واتصالا مع هذه الفكرة تأتي اشارات الشاب جعفر صادق قائلا "الاصوات التي تتحدث عن الحياة المدنية كثيرة لكنها تبدو مجرد أقوال لا افعال، واستثني منها قوى التيار الديموقراطي المتمثلة بحركات ومنظمات مجتمع مدني ، فهي ترفع شعار الدولة المدنية وهي مؤمنة فيه ..واقعية بناء هذه الدولة "المدنية" في العراق مهمة صعبة جدا تحتاج الى نضال مستمر ".
ويقول الكاتب عمار السواد "اعتقد ان المطالب تصدر من نخبة جميلة من الشباب، وان هؤلاء متأثرون بالتوجهات الليبرالية وانهم يتسعون بشكل تدريجي ولكن بطيء..وهذا يعني ان بناء حياة مدنية اولا مرهون بتحولات اقليمية تمس الداعمين الكبار للاسلاميين في العراق، لكن اذا عولنا على التغيير الداخلي فالوقت ما زال مبكرا امام انتقال لحياة مدنية خصوصا مع وجود وضع اقتصادي متردد لان تطور الاقتصاد شرط بناء هذه الحياة".

* تقرير نشر في "الحياة" 2011


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM