واشنطن- علي عبد الأمير في سنوات الحصار المفروض على العراق في تسعينيات القرن الماضي، لم تكن الهجرة حكراً علي فئة معينة من فئات المجتمع، فالسعي الى مغادرة البلاد نحو "مناطق آمنة" توفر حياة باتت عسيرة في الوطن الذي صار نهباً لأزمات الحروب وحصاراتها، لازم موسيقيي العراق ومغنيه الشبان ايضا. وكان يمكن في العاصمة الأردنية (النافذة الوحيدة المفتوحة امام العراقيين حينها)، تشكيل اوركسترا موسيقية عراقية من عازفين على مختلف الآلات، مثلما يمكن التعرف علي مجموعات صغيرة تعني بالموروث الموسيقي والغنائي، وأخرى تذهب الي مغامرة التجديد فتعرض ألواناً موسيقية عراقية ضمن اشكال الجاز الأميركي أو حتى موسيقى الروك. مثلما كنا نجد مطربين يغنون في ليالي عمان كل الأشكال بدءاً من "المقام العراقي" وصولاً الى رومانسية غناء فرانك سيناترا! وكان من بين آخر من انضم الى قافلة الموسيقيين العراقيين المهاجرين، الملحن والمؤلف الموسيقي والمطرب رائد جورج، الذي لمع اسمه خلال العقد الاخير من القرن العشرين، كواحد من بين أبرز الملحنين والمغنين الشبان في العراق، وتكفي أغنيته "لا ترحلين" ان تكون واحدة من افضل عشر اغنيات عراقية في عقدها: بناء موسيقي محكم وجديد، رومانسية كانت تحتاجها الروح العراقية المنكسرة بعد العام 1991، فضلا عن معالجة "فيديوية" في تصويرها (اخراج هشام خالد) كانت جديدة في العام 1993 ليس على الاغنية العراقية المصورة وحسب، بل العربية ايضا، على الرغم من ان "موتيفات" بعض مشاهدها كانت متأثرة بتصوير اغنيات اجنبية جميلة: مشهد المطرب رائد جورج يعزف على البيانو في حقل قمح والكاميرا تدور حوله من الطائرة وغيرها من مشاهد الانتظار والاشواق تحت المطر، وكان المطر هنا معادلا موضوعيا لحاجة الانسان في ان يخرج الى الحياة نظيفا من اثام الحروب وغبارها. انها كانت "اغنية حب" وقتها بامتياز، وظلت هكذا الى اليوم تحتفظ بشحنتها العاطفية وقدرتها على التأثير لما في بنائها الموسيقي من إحكام وعذوبة في ان. جورج الذي غادر العراق الي أميركا 1998، كان ينتظر في العاصمة الاردنية تأشيرة السفر الى "العالم حين جاء الاعتراف العربي بموهبته الموسيقية واضحا وكبيرا، اذ فازت موسيقاه التصويرية في مسلسل "رجال الظل" في "مهرجان القاهرة للإذاعة والتلفزيون" بجائزة "أفضل موسيقي تصويرية في عمل درامي" عام 1998، مع شهادة خاصة دونها رئيس اللجنة التحكيمية المؤلف الموسيقي المصري البارز عمار الشريعي. وفي هذا الجانب البارز في عمله، يمكن استعادة موسيقاه التصويرية لمسرحية "الإنسان الطيب" للمخرج العراقي المعروف عوني كرومي (رحل في العام 2005 بغربته الالمانية)، تلك الموسيقى التي جعلته اصغر مؤلف موسيقي عراقي وذلك أواسط ثمانينات القرن الماضي يوم لم يكن الشاب قد بلغ العشرين من عمره. ورائد جورج الذي يعيش اليوم في ديترويت الاميركية، كان انجز عملين مهمين في هذا الباب، فثمة معالجته الموسيقية لمسلسل عن اكثر الشخصيات العراقية السياسية اثارة للجدل في النصف الاول من القرن العشرين: الراحل نوري السعيد، حمل عنوان "الباشا" لصالح قناة "الشرقية" العراقية 2008 ومسلسل "اعلان حالة حب" الذي حاول قراءة التحولات العراقية المعاصرة الرهيبة سياسيا واجتماعيا عبر قصة حب، وللقناة ذاتها العام الماضي. ما يحسب للمؤلف جورج في بنائه الموسيقى التصويرية، هو ابتعاده عن "ترجمة" الاحداث الدرامية عبر الموسيقى، والارتقاء بالعمل الموسيقي الى مستوى يمكنه الاحتفاظ بقدرته على التاثير في المتلقي كعمل موسيقي مجرد، حد ان فيضا من الاشواق والذكريات يستولي على المتلقين اليوم، وهم يستعيدون موسيقى مسلسل "رجال الظل" او المقدمة الموسيقية لمسلسل "الباشا" التي قاربت في بنيتها حدا من الصفاء والاتقان دعا اوركسترا "بونتياك اوكلاند" الاميركية الى عزفها كعمل موسيقي رفقة كورال ضخم.
رائد جورج: العزف على خرائب البلاد
اللافت في تحولات رائد جورج المكانية ودلالاتها الانسانية، انه حين بات شبه مؤكد غزو الولايات المتحدة لبلاده الاولى، قرر العودة الى بغداد ومن نافذة ببيته في منطقة "الدورة" بالعاصمة العراقية راح يراقب الدبابات الاميركية وهي تدخل البلاد في عاصفة رعب جديدة تضاف الى عواصف حروب الديكتاتور صدام حسين، ومن هنا شعت فكرة ان يتولى اعادة توزيع نشيد مدرسي قديم "موطني" لتقدمه الفرقة السيمفونية الوطنية العراقية، بعد ايام قليلة من الغزو، وليصبح "النشيد الوطني العراقي" الحالي الى حين كتابة نشيد وطني دائم. لكن عواصف الرعب قذفت بالفنان مرة اخرى الى اميركا، ولينهمك هناك في شكل جديد، هو صوغ موسيقي للتراتيل في كنيستي: "ماركوركيس" في مشيغان و "مارميخا" في مدينة سان دييغو بولاية كاليفونيا. وفضلا عن الاغنيات والموسيقى التصويرية للاعمال الدرامية في التلفزة والمسرح، كان عمله الذي في إفتتاح "مهرجان بابل الدولي" 1994 وهو "حكاية الملكات الخمس" الذي صاغه شعرا الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد، الى جانب حفل الإختتام في دورة لاحقة للمهرجان ذاته 1995، حين عزف عملا قارب "شهرزاد" المؤلف الروسي كورساكوف، ولكن بروح شرقية وعربية أكثر هذه المرة. "الحياة" سألت صاحب اغنية "سمعني كلمة" فيما اذا كان " قد خسر في ايمركا حيوية نتاجه وتأثيره اللذين كان عليهما وهو في العراق"؟ فقال " انتاجي في العراق اكثر، لكنه اصبح اعمق في اميركا بسبب الدراسة والاتصال مع تجارب موسيقية ناضجة". وفي هذا الاتجاه يستعد رائد جورج الى ما يصفه "عمل موسيقي على مستوى عالمي" مع البلغاري كراسيمر افراموف، صاحب الشكل الموسيقي والغنائي الجديد "بوبرا" الناتج من مزيج "البوب" و"الاوبرا" والذي فازت اغنيته "ايلوشن" بجائزة الاغنية الاوروبية "يوروفشن" 2009. في العرض الموسيقي الذي ستتولى انتاجه شركات كبرى في العروض الموسيقية والفنية ( يتضمن الموسيقى والغناء والرقص)، ويقدم اولا في العاصمة البلغارية صوفيا، وفيه سيقدم جورج مختارات من اعماله الموسيقية والغنائية الى جانب مشاركة صاحب "بوبرا"، في الغناء والعزف على البيانو الذي يبرع فيه الفنان العراقي ايما براعة، فضلا عن تقديم واحدة من اغنيات تراثية صارت قرينة بشجن بلاده وانسانها.
* نشرت في "الحياة"
|