اذا كان المقصود بالحديث عن توزيع جغرافي لبلدان دون غيرها، تحتشد بالشعراء وتتميز بامتياز شعري في ثقافتها السائدة، فانه يدل على ثقافة القطيع لجهة العدد الضخم من الشعراء، مثلما هو يدل ضمنيا على سيادة نمط كتابي تتراجع معه الانماط الاخرى، كما هي حال الشعر في العراق وثقافته. اكاد اجزم ان كل من دخل الادب بوصفه مسارا احترافيا في العراق، بدأ مع الشعر كتابة واهتماما، فهو الاكثر سطوة، حاضر بقوة في تاريخ البلاد مثلما هو متداخل مع راهنها، والاجيال الشعرية في العراق تشهد تدافعا بالمناكب، حد ان مهرجانات الشعر في الماضي القريب واليوم ايضا، تكفي كي تكون مرآة عاكسة لتدافع "قطيعي" نحو المنابر والتأكيد على الظهور وترسيخ الاسماء وسط ظاهرة جوهرها اجتماعي، فيما مضمونها الفني يتراجع حد الخفوت.
علي عبد الامير عجام
العراق لا ينافسه بلد عربي في توليد الشعراء وانتاجهم الا موريتانيا، وهو ايضا كبلد متعدد البيئات واللغات، لا يتوافر على توزيع متجانس لشعرائه وفقا لبيئاته الطبيعية والاجتماعية، بل ان شعرائه مكرسون في مناطق تتركز في بغداد وصولا الى اقصى الجنوب في البصرة. مالذي يعنيه هذا؟ الشعر العراقي ريفي الهوى والطابع، في جغرافيته الطبيعية ثم يحاول استعارة الحداثة ما ان يحل الشاعر في المدن الكبرى وبغداد تحديدا، الا ان هذه "الاستعارة" تظل مشوهة، لاعتبارين، الاول: ان تمثل الحداثة ليس انتقالا مكانيا وحسب بل اتصالا مع معطيات فكرية حية ومؤثرة وهو ما افتقده العراق منذ ان بسط النظام الديكتاتوري السابق نفوذه على اشكال الحياة وجوهرها، والثاني يتصل بالشعراء ذاتهم، لجهة الانفصام بين النص وواقعهم الاجتماعي، مما يفقد نتاجهم اي عنصر اصيل، ففي جيلنا مثلا: جيل الثمانينات، نجد اغلبية الشعراء فيه تنتج نصا "حداثويا" في اللغة والبناء الشكلي، فيما هم يعيشون وقائع شديدة التخلف اجتماعيا، وقاسية في ايقاعها لجهة هيمنة الحرب والموت. وهذا عنى ببساطة ان الحداثة كانت شكلية وغير اصيلة، ومستعارة الا في حالات نادرة. هذا يقودنا الى الفكرة الاولى، فاي حديث عن جغرافيا شعرية، لجهة نتاج شعري كبير كما ونوعا في مكان ما، انما هو حديث يحيل الى "ثقافة القطيع" وليس النتاج المتبصر الدال على الكشف الانساني والفكري، فمن السهولة ان تكون شاعرا في العراق، ومن السهولة ان تستند الى قوى غير ثقافية لتكريس مسيرتك، الا انه من الصعوبة بمكان ان تكون مفكرا ناقدا وسجاليا، ذلك ان ثقافة القطيع المهيمنة على بلاد السياب منذ العام 1958 (الانضواء الجماعي في الافكار السياسية والدينية والاحزاب طوعا او اجبارا) ترتاب من اي فكر نقدي، بينما الشعراء فهم دلالة على ثقافية "هوائية" لا تستقر على جوهر انساني، فان اتصل احد بهذا المعنى فانه سيكون اختار طريقا موحشا بالكامل. ان سمعت عن جغرافيا شعرية، لجهة ان بلدا عربيا دون غيره يمتاز بعدد وفير من الشعراء، عليك ان ترتاب من ثقافته، ذلك انها تعتمد تيارا واسعا من مدعي الادب والثقافة، عبر لون سائد هو الشعر، ضمن تدافع ليس بعيدا عن تدافع القطيع.
• المقالة مكتوبة كمشاركة في استبيان ثقافي بطلب من الشاعر والصحافي العراقي صلاح حسن لصالح مجلة شعرية عربية.
|