انا يا أصدقاء ويا احبة في لحظة حرجة حقا.. فثمة بلاد مجروحة تغالب الامها.. وثمة روحي تغالب جراحها الشخصية جدا وفوق كل هذا انا في حضرة مشاعركم وهو كثير علي... لكن لابد من جردة حساب ولا اجمل من بغداد ان تكون مكانا وسببا لمراجعة شخصية من نوع ما، انا بصدد البوح بها، وبخاصة عن عناصر واشكال كوّنت نتاجي الثقافي والانساني.
اولا :الشعر
وجه الي سؤال عن مالذي تحاول القبض عليه من خلال فعل الكتابة الشعرية فقلت ان الكتابة الشعرية بدت عندي، لا مجرد نقيض للموت أو غيره من التغييب بل هي تحقيقاَ للجدوى، الجدوى التي تعني الامل بتسجيل محاولتي الشخصية للاعلان عن ارتعاشة يد في موسم كامل للجفاف .
في الشعر كنت مخلصا لتجربتي الشخصية وعمادها الحياة المكتظة بالفرح والحزن ايضا.. جبلت تكويناَ ووعياَ على الاختلاف، وكنت قريباَ الى نفسي، لم اشهد زوراَ ولكنني خضت اوحال هزائم اجتماعية وسياسية ما انفكت توصلني من نتيجة خائبة الى اخرى ..
لطالما كان الشعر عندي سفينة نجاة من الانضواء الجماعي وتحقيقا من نوع ما للذات في نزوعها الى ان تكون مختلفة دونما انفصال عن الاخرين، ولكن حين صار الشعر متشابها وموجة جماعية، بحثت عن وسائل كتابية اخرى تميزني عن رهط شعراء متشابهين على نحو يثير الملل .. فتوزع نشاطي الثقافي على ثلاثة اشكال ... الشعر و النقد الموسيقي والكتابة الصحفية ... وهو ما اعتبره نقاد وكتاب صحافيون تشتتا، لكنني لم امارس نشاطي في هذه التوزعات الا وفق ما احببت .. ففي الصحافة مثلاَ كنت أجد متعة بالغة، فأنني اعيد صياغة حتى الخبر اعتماداَ على ذائقتي في اللغة وأكتب بما يبعد الصياغات السهلة عن مقالاتي، هذا جاء لكونني لم اعمل في مؤسسة صحافية كأنتظام وظيفي بل وفق التزام مهني، وظلت علاقتي بالصحافة علاقة محبة دائماَ وأعجاباَ بصفة الاتصال الحيوية فيها. قد لا أبدو منصفاَ حين أقول بعدم تأثير ذلك على نصي الشعري، ولكنني كتبت في نقد الشعر، ونقد الموسيقى ونقد السينما نصوصاَ فيها من المعرفة والجوانب المهنية قدر ما فيها من اشراقات هي اقرب للشعر.
وليس سرا ان تكون هذه التنويعات في كتابتي قريبة من التنويعات التي اندرج فيها العميق المؤثر والبهي قاسم عبد الامير عجام، لكن هذا تم دونما قصد في التقليد انما جاء تأثرا بالتنوع الفياض الذي كانت عليه تجربته، فقاسم كان يدافع بين اهلي واقاربي عن عدم استخدام لقبي العائلي، وهو دون توضيح مني عرف سبب ذلك، اذ كنت اريد ان اكون انا ذاتي دونما وصاية من نوع ما يفرضها اللقب لجهة اتصاله باخي الذي ترسخت تجربته وكانت تقابل باحترام قبل ان ينشر لي حرف واحد، لكنني وبعد اغتياله القاسي استخدمت اللقب وفاء واحتفاء متصلا بحضوره.
ثانيا السرد
اذا كان الشعر يضيء بالتماعات مفاجئة فالسرد قنديل زيته يضيء على مهل ..احببت السرد كثيرا، بل ان اكثر من ناقد لنصوصي الشعرية توقف عند البناء السردي فيها، ثم دخلت غابة السرد الصريحة مفتونا حين بدأت كتابة فصول عن بغدادي الشخصية ... بغداد التي ادهشتني وعلمتني وهذبتني بعمارتها وامكنتها واسرتني حد انني اتحدث عن عوالمها التي عشت منذ منتصف ستينيات القرن الماضي حتى نهاية الثمانينات كما لو كنت اتقرب الى اجمل امراة خلقها الله .. تلك الفصول تنتظر منذ عام ان تطبع في دار المدى ضمن كتاب بعنوان "نوستالجيا".
ثالثا الصحافة
اول تجربة صحافية كانت لي في العمل صيف العام 1975 كمتدرب في "طريق الشعب"، وتلك كانت بداية قوية ومؤثرة.. ثم تواصلت عبر مجلة "الثقافة" التي كان يديرها الراحل الكبير د صلاح خالص، وقبلها مكاتبا لمجلة "الهدف" الفلسطينية من بغداد ولاحقا العمل محررا موسيقيا في مجلة "فنون" 1982-1986 ثم الكتابة في "الف باء" فصحيفة "القادسية" ومجلة "حراس الوطن"، غير ان الابرز هنا كان في عملي مراسلا ثقافيا لمجلة "اليوم السابع" التي تعلمت عن بعد منها فنون الكتابة الصحافية الراقية التي كانت الصحافة العراقية قد غادرتها منذ اواخر سبعينيات القرن الماضي.
في العام 1993 عشت تجربة جديدة انتقلت فيها من الصحافة المقروءة الى الصحافة التلفزيونية فعملت رفقة الصديقين نصير شمة وسلطان الخطيب في كتابة وتقديم برنامج تلفزيوني حمل عنوان "موسيقى موسيقى" في تلفزيون بغداد.
في العام 1995 وبعد اشهر قليلة من مغادرتي البلاد انتقلت من الصحافة هاويا الى الصحافة محترفا فعملت محررا ثقافيا في صحيفة "الرأي" الاردنية التي لم اغادرها حتى العام 2004 و"القدس العربي" 1995- 1997 و"الشرق الأوسط" 1997-1998 الصادرتين في لندن.
في العام 1996 حتى 2003عرفت شكلا جديدا اسمه الصحافة الاذاعية عبر عملي في اذاعة المستقبل المعارضة لنظام صدام حسين محررا ثقافيا وسياسيا والفضل في حسن دربتي هنا يعود للاذاعي الرائد الراحل مشتاق طالب.
ابرز محطة صحافية لي على الاطلاق كانت في عملي مراسلا للشؤون العراقية في صحيفة "الحياة" اللندنية 1998-2004 ومنها خرجت بفخر وبشهادة صحافيين عرب واجانب صحافيا محترفا وكاتبا متخصصا بالشؤون العراقية.
في بغداد وبعد ايام قليلة على سقوط صدام وبمعية ارواح تفيض محبة واخلاصا للعراق وحريته من زملاء واصدقاء كانوا سندا حقيقيا اشرفت على تحرير اول صحيفة يومية في عصر ما بعد الديكتاتورية هي صحيفة "نداء المستقبل" التي توقف تجربتها لتنضم الى صحيفة "بغداد" بعد عودتها من مكان صدروها السابق لندن وتوليت رئاسة تحريرها لاحقا.
في خريف العام 2004 حتى نهاية العام الماضي عملت مديرا لتحرير الاخبار العراقية في تلفزيون "الحرة"، وضمن عملي في الصحافة التلفزيونية قدمت برنامجا اخباريا اسبوعيا هو "سبعة ايام" فضلا عن برامج سنوية عدة واخرى ثقافية ابرزها "مقامات الشجن" وتحديدا نسخته الخاصة بضحايا الاعلام في العراق العام 2006 واهديته الى الصحافي الشاب وابن صديقي مروان خزعل الماجدي، الى جانب برامج وثائقية افخر بواحد منها هو على امتداد ساعتين وحمل عنوان " ملكية واربع جمهوريات" وجاء في الذكرى الخمسين للرابع عشر من تموز.
قبل اشهر عدت للعمل الصحافي المقروء متوزعا ما بين "الحياة" اللندنية و"المدى" البغدادية ولاحقا تنبهت الى فكرة مفادها ان لا قاطرة يمكن لها تقود الوضع في العراق مثل القاطرة الاقتصادية وبتجربة شخصية محض عمادها الامل بالعراق اصدرت مجلة "اسواق العراق" التي اتمناها اسواقا عامرة بالنافع والاصيل وليست مثلما هي الان مكب نفايات العالم الصناعية والزراعية.
رابعا الموسيقى
غابت شقيقاتي الخمس تباعا بالزواج وكان قاسم يغيب تارة بالسجن وتارة بالدراسة الجامعية.. بيتنا بات خاليا الا من صوت امي وهي ترتل القرآن والادعية بصوت مخضب بالدموع او هي تنشد الشعر الذي كان جدي خلفها في مجلداته الكثيرة المكتوبة بخط ريشته الساحر...صوتها كان درس الموسيقى والايقاع الاول في حياتي.. ثم جاء الدرس الثاني عبر معلم النشيد في مدرسة المثنى الابتدائية بالمسيب ..المعلم هذا كان يسحرني بفرط اناقته وعطره وطريقة عزفه على العود ولفرط رقته كان الوطن في الاناشيد يبدو شديد الرقة والاناقة.
درس الموسيقى الثالث كان في سنوات اعدادية المأمون ببغداد حين تعلمت العزف على البيانو في مدرستي لكنني لاحقا وبصرامة الانصراف الى الدراسة العلمية الجامعية ومن ثم الاندراج بالكتابة الشعرية والانغماس شبه التام بالقراءة وبحماقة الاندراج ببعض العمل السياسي، نسيت دروس البيانو فتخشبت اصابعي، لكن روحي ظلت ندية بالكثير من النغم، فوجدت في النقد الموسيقي تعويضا من نوع ما، واحببت كثيرا جدا ما كتبت في نقد اشكال عدة من الموسيقى ودائما وفق نهج شخصي قائم على دراسة النغم بوصفه دلالة اجتماعية وليس مجرد دلالة صوتية.. وكتابي المؤجل كثيرا يحمل عنوان "في سوسيولوجيا الاغنية".
الموسيقى انقذتني في الحرب التي عشتها معركة معركة، والكتابة عنها انقذتني في المنفى من ذل السؤال بل عززت رصيدي في اوساط عربية عدة حتى صرت محررا في غير مجلة موسيقية عربية ابرزها مجلة "الموسيقى العربية".
خامسا: الاقامة في عمّان
حين خرجت من البلاد مقررا عدم العودة طالما ظلت الديكتاتورية تسد افق الحياة فيها، كنت من موجة الراحلين المتأخرة، وسبقتني الى الخروج من البلد موجات كثيرة . المكان الجديد منحني فضيلة الاتصال التي حرمت منها كثيراَ وهي كالهواء بالنسبة للمثقف المعاصر، خرجت من وطأة الخطاب التلفيقي ورعب التنظيم الهائل للكذب وتغييب الحقائق، لكن عيني ظلت تستدير نحو امكنتنا الحميمة التي كونتها ارواحنا وذائقتناَ.
سادسا: بيت الكاتب
ليس من اليسير إستعادة أيام كالتي اندرجت فيها ومجموعة من القلوب الشجاعة في مهمة تبدو اليوم حفرا في حجر المستحيل، لكننا بدأب محبة وصدق، فعلنا مايبدو اليوم أقرب الى الفانتازيا: كيف تحول بيتي الشخصي في عمّان الى" صالون العراق الثقافي"؟ وكيف كانت الصالة الضيقة كل اسبوعين تتسع لتحتضن في مشهد نادر نحو 30 كاتبا وفنانا وموسيقيا من مثقفي العراق الذي كانوا يحاولون الخروج الى العالم انطلاقا من العاصمة الأردنية؟
خلال السنوات 1997-2003 من النادر أن يكون أديب عراقي حطّ بعمّان دون أن يضيء بحضوره بيتي الذي اتفقت ومجموعة الأصدقاء على أن تحمل الأمسيات الثقافية فيه إسم البلاد التي آوتنا قليلا و لوّعتنا وجرحتنا وهجّرتنا كثيرا، ولو قدّر أن أرفق صور مبدعي العراق وهم يجتمعون في ثنايا البيت الذي إتسع لنزقهم وأوهامهم وتوقهم، لكانت هناك مجموعة نادرة من أسماء باتت في قلب المشهد الثقافي العراقي المتشظي.
سابعا: الاقامة في اميركا
في اميركا.. لم يكن هناك منفى حقيقي فكان كل عملي بل كل وجودي منذورا ومشغولا بالعراق.. اعمل مع عراقيين، اشتغل على قضايا العراق اليومية، وافكر بالطريقة العراقية ايضا لكنني كنت احاول الافادة ما امكنني بتطوير العمل وفق مبادىء الصحافة التلفزيونية الاميركية المتقدمة.
ولفرط انشغالي العراق هذا كنت احيا مفارقة حقيقية فبقدر ما كنت اكتب في الثقافة الاميركية وتحديدا الفنون الموسيقية والسينمائية وانا في العراق صرت اميركيا في بلادي بينما وانا في اميركا كنت مشغولا بكل ما هو عراقي حتى اصبحت عراقيا صرفا وانا في اميركا.
اليوم انا في بغداد تحت رحمة قلوب محبين.. وهذا يكفيني فخرا.
* شهادة قدمت في اتحاد الادباء ايار 2011 |