بغداد- علي عبد الأمير حين ارتطم تمثال الرئيس العراقي صدام حسين على أرض " ساحة الفردوس" ببغداد في التاسع من نيسان (ابريل) 2003، كان صوت الحطام أعلى من نحو ألف أغنية ولحن صاغها مطربون وملحنون عراقيون وعرب عملت على اختزال الوطن بصورة "القائد الفذ"، ومع الصخب المدوي لإرتطام النحاس على الارض، بدا العراقيون "عراة" لجهة ان لا اغنية يمكن ان تثير فيهم مشاعر "وطنية" من نوع ما ، فالاغنية "الوطنية" تداعت لتتضاءل في "اغنية حماسية" رسخها مداحو النظام السابق من مغنين وشعراء وملحنين. كان صعود اغنيات مديح الطغيان مترافقا مع تراجع الانتاج الغنائي والموسيقي الطبيعي الذي كانت الاسماع في العراق تعرفت الى مراحل عدة فيه ، وتراكمت خبرات موسيقية ولحنية ما لبثت ان التحقت بالمؤسسة الاعلامية والثقافية للسلطات الحاكمة واصبحت خاضعة لتوجهاتها وهو ما بدأ بشكل تدريجي منذ انقلاب العام 1968 وصولا الى سيطرة الرئيس السابق صدام حسين على السلطة ،وبدء مرحلة الغناء " التعبوي" مع الحرب على ايران 1980. سقوط اقنعة الديكتاتورية كشف عن حقيقة مريعة، هي ان الوطن في الموسيقى العراقية لم يكن حاضرا، ومن النادر ان يكون العراقيون ومنذ العام 1980 عرفوا اغنية تحضر فيها صورة البلاد واهلها، واكتشفوا ان نشيد" بلادي" الذي كان رمزا موسيقيا لمصر حين انتقلت من الناصرية الى الانفتاح الساداتي وما اعقبه، لا نظير عراقيا له، وحين راح الموسيقيون يبحثون عن مثال اقرب الى الذي طبعه سيد درويش، لم يجدوا في الذكرة غير "موطني" النشيد الذي كانت اجيال كثيرة من العراقيين حفظته عبر درس النشيد المدرسي . اللافت في النشيد انه ليس عراقيا فقد كتبه الشاعر الفلسطيني ابراهيم طوقان، ووضع لحنه اللبنانيان الاخوان فليفل، فيما فات اولئك الموسيقيين ذلك اللحن الآسر الذي وضعه وغناه المطرب العراقي احمد الخليل، وحمل روحا "وطنية" دونما صخب، وجعل النشيد الذي تتكرر لازمته "كن قويا موطني كن بهيا موطني ...ياموطني يا يا موطني" اقرب الى الاغنية العاطفية لجهة الوجدان الغامر في اللحن والكلمات. اكتشاف العراقيين غياب الاعمال الموسيقية والغنائية التي تكون مشتركا وطنيا بينهم ، كان مترافقا مع عمق ازمة الهوية الوطنية بين مكوناتهم وهو ما سيصبح لا حقا تهديدا جديا لبقاء بلادهم موحدة، وما عمق ذلك الغياب صعود قوى التشدد الاسلامي (شيعية وسنية) ومعها دخلت البلاد مرحلة بات فيها تحريم الموسيقى والغناء اقرب الى الامر الواقع . واذا كانت مفارقة ازمة البلاد "الثقيلة " وانتاجها الحانا " خفيفة"، مفارقة عراقية ايضا وليست عربية وحسب، الا ان المتابع لتاريخ الموسيقى العراقية المعاصرة سيجد استثناء لتك المعادلة، ففي ثلاثة عقود من تاريخ العراق المعاصر 1958-1978، انتجت قرائح ملحنين واصوات مغنيات ومغنيين اعمالا كبيرة ومن النوع " الثقيل" في قيمته الفنية بينما كانت البلاد تشهد ظروفا من البناء الجدي، وتغيرت الحال مع بدء مراحل الهدم والتدمير المنظمة، فكلما ازدادت نعوش العراقيين ودخلت البلاد مراحل العزلة كلما " خفت" الألحان ، وتراجعت الذائقة .
ما بعد نيسان 2003: الحياة المدنية الى تراجع..الأنغام كذلك في الايام الاولى لسقوط النظام العراقي السابق استولى انصار حزب اسلامي متنفذ على مبنى "قاعة الرباط" في منطقة الوزيرية ببغداد وانزلوا اليافطة التي تشير الى "الفرقة السيمفونية الوطنية العراقية" التي تتخذ من المبنى مقرا لها، ورفعوا بدلا عنها يافطة الحزب وميليشياه، مثلما استولى حزب اسلامي آخر على مقر" مدرسة الموسيقى والباليه". واذ تمكن عازفو الفرقة السيمفونية التي تعتبر الاعرق في المنطقة وتأسست بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بثلاث سنوات، ومعلمو المدرسة التي تأسست اواخر ستينيات القرن الماضي من اقناع قياديي الحزبين الاسلاميين باخلاء المبنيين بوصفهما " مصدر رزق" مئات الفنانين والموظفين الا ان الحادثين كشفا مبكرا عن نيات "القوى الجديدة" في احداث تحول ثقافي نحو " اصولية " ترى في سلم اولوياتها وضع الحد لكل ما هو مخالف للفكر الديني، والموسيقى كانت من ابرز " المحرمات" بحسب القوى التي وجدت من القيم المحافظة السائدة في المجتمع العراقي بسبب الحروب والحصار حاضنة واسعة ومؤثرة لتوجهاتها الفكرية والثقافية. ومن الفلوجة الى البصرة مرورا بـ" مدينة الصدر" في بغداد جاءت فصول محاربة الموسيقى بوصفها "مخالفة للشريعة" وبما يجعلها تحت طائلة "الكفر". ففي منتصف العام 2004 وفي عز سطوة القوى الاصولية في الفلوجة حكم بجلد خمسة عراقيين كانوا يبيعون اسطوانات الغناء والافلام مع التهديد بقطع رؤوسهم اذا ما عادوا الى " الحرام". وفي البصرة التي وقعت تحت قبضة القوى الاسلامية المتشددة قبل غيرها من مناطق العراق بعد العام 2003، بدأت ملاحقة الموسيقى والموسيقيين حتى نهاية العام 2008، ولم يعد غريبا ان يكتب شعراء الاغنية العاطفية كلمات تناسب " الشعائر الدينية" تنفيذا لاوامر المجموعات المتشددة التي لا تتردد في تصفية كل من يخالفها ثقافيا وسياسيا.
فتيات معهد الفنون الجميلة ببغداد: عودة الروح
ومن هنا ليس مفاجأة ان توقف السلطات الحكومية، التي تسيطر عليها قوى سياسية اسلامية متنفذة، أقسام الموسيقى وتوقف اختلاط الجنسين في مؤسسات تربوية عدة، الا ان حيوية ما اظهرت شخصيات ثقافية ومؤسسات مستقلة عاندت مثل هذا التيار المانع استنادا الى مواد دستورية تشدد على احترام الحريات والتعبير، وحققت في العامين الماضيين "اختراقات" لافتة في اسيجة الممنوعات الفكرية، ومنها عودة الموسيقى والانغام الى معهد الفنون الجميلة، وتحديدا في فرع البنات، حين صدحت حناجر غضة قبل ايام في اداء الحان واغنيات، إنشدت للوطن والحب. وفيما كان اهالي الطالبات منعوا بناتهم من الانخراط في قسم الموسيقى، خوفا من استهدافهن بالاختطاف من قبل القوى المتشددة المسلحة، استطاعت مديرة المعهد التربوية الناشطة والفنانة كريمة هاشم ان تجول على البيوت وتقنع الاهالي بدأب قل نظيره، بان دراسة الموسيقى عمل تربوي راق، وان لاشيء خادشا للحياء ومخالفا للدين فيه، وعن هذا قدمت "مؤسسة المدى للاعلام والثقافة والفنون" التي نشطت منذ اشهر في حملة حملت عنوان "الحريات أولا" وشاح الابداع للمديرة هاشم لجهدها في اعادة الروح الى المعهد الذي يعد من معالم التربية الفنية في العراق. المدير العام لـ"مؤسسة المدى" ا غادة العاملي قالت في كلمة لها خلال الحفل الموسيقي لفتيات المعهد" نقف اليوم في حضرة سيدة أعطت للجمال قيمته الحقيقية وعلمته ورفعت من سمو رسالته. ونحن نقف أمام كريمة هاشم بكل افتخار وحب وإعجاب لا بد أن نسجل لها كل العرفان فهي سيدة عملت بجهد من اجل أن يكون لنا معهد بروعة وجمال معهد الفنون الجميلة، وان تدرس الفنون بكل ما للفن من قيمة وإحساس. خمس سنوات وكريمة عميدة الفن والإبداع وهي بعصاميتها المميزة وبشموخ إصرارها استطاعت أن تعطي نموذجا مشرفا للمرأة العراقية". ولفتت العاملي الى التحديات الجدية التي واجهت مديرة المعهد "لقد ناضلت من اجل أن تتجاوز كل العقبات واهم تلك العقبات خيارها بين الموت والحياة، ففي زمن الإرهاب الذي يخنقنا، لا صوت إلا للرصاص، لكن كريمة هاشم تحدت كل هذا ورفعت من شأن التعليم والفن، وكافحت من اجل حرية المرأة واقتحمت كل المجالات التي رأت أن لها الحق في التواجد فيها. كريمة مثل الكثيرين الذين آمنوا بوجه العراق الأبيض وجلبوا الشمس لنا". * نشرت في "الحياة"
|