علي عبد الأميرعجام*
ظهر جيل غنائي في العراق بعد حرب الخليج الثانية 1991 فيه من التدهور الذوقي ما انعكس في الحياة العراقية التي صارت نهبا لتدهور المستويات الاجتماعية والاقتصادية بسبب الحروب والحصار.
وعن ابرز اسماء هذا الجيل الغنائي يقول الناقد الموسيقي العراقي المعروف عادل الهاشمي، انها اسهمت في "تشكيل مرحلة انحطاط الاغنية العراقية واسفافها"، لافتا الى ظاهرة انحسار الاصوات الغنائية العراقية، فاعتبر ذلك عائدا الى "تحول الغناء من التعبير الى النداء الغريزي الفاضح" متناسيا العامل الحاسم في الظاهرة، الا وهو انسحاب الدور الانساني الحي للمرأة العراقية، ففي الاربعينات والخمسينات من القرن الفائت كانت الاصوات النسائية العراقية تعادل الاصوات الرجالية ان لم تتفوق عليها كما ونوعا في مؤشر على انفتاح اجتماعي وفكري في العراق لم يعد قائما اليوم. كما ان من بين ابرز المغنين في الغناء العراقي اليوم هناك هيثم يوسف الذي يعتبره الهاشمي صاحب صوت "من الاصوات الصغيرة والفقيرة، وهو صوت هوائي لا يمكن ان يكون صوتا غنائيا لفقدانه التأهيل العلمي والعملي"، وصوت المطرب حاتم العراقي بحسب آراء الهاشمي "صوت غجري يفتقر الى عنصر البلاغة الادائية وسلامة الالقاء الغنائي لان التركيبة اللسانية عنده ليست مهذبة"، وصوت حبيب علي "صوت نسائي يفتقد الى رصانة الاداء"، والمطرب كريم منصور الذي عرف ببعض الاغنيات الجيدة "قتله الغرور لكنه يمتلك صوتا جيدا، وفي ادائه يتعالى على الجمهور ولا يكون جزءا منه ". ان اصواتا غنائية روجها " تلفزيون الشباب" الذي كان يديره عدي النجل الاكبر لصدام حسين، هي اصوات غير مصقولة، وتعاني عيوبا جوهرية في الصوت فضلا عن جهل في الثقافة الموسيقية ، كما في غناء حاتم العراقي ، باسم العلي ، باسل العزيز ، جلال خورشيد ، صلاح البحر، قسم السلطان ، حبيب علي وغيرهم ممن يسمون "مطربو قاع المدينة" الذين خلطوا بطريقة ساذجة بين غناء الغجر وغناء الريف وتقليد الغناء العربي المعاصر القائم على الحان الإيقاعات الراقصة. وبعد ان طويت صفحة الرعاية" الأبوية" لمطربي قاع المدينة في العراق بحسب حاضنة عدي صدام حسين، طفت على سطح الأحداث بعد الغزو الاميركي للعراق 2003 ظاهرة انتاج الأغاني من اولئك المطربين، ولكن انطلاقا من دبي حيث اقام حاتم العراقي وصلاح البحر وعلاء سعد صاحب " البرتقالة" فضلا عن ما ينتجه مطربون عراقيون اقل شهرة في دمشق وعمّان . و وجد هؤلاء عوضا عن " تلفزيون الشباب" قنوات البث الغنائي العربية الى جانب بعض القنوات العراقية التجارية وهي تتساهل مع الحانهم الهابطة واصواتهم غير المنسجمة مع الشروط الفنية . ومن بين استثناءات الأغنية العراقية " المهاجرة" نجد بعض الألحان التي يغنيها المطرب رضا العبد الله ، وفيها يحقق صاحب " ظالم" تعبيرية وروحية بدت متوارية عن النتاج الغنائي العراقي، وان كان العبد الله غير ملتزم القوالب الغنائية العراقية التقليدية، فضلا عن براعة بدت تتراجع مؤخرا عند المطرب ماجد المهندس، ومن المطرب المقيم في مصر عائد المنشد والمطرب دافىء الصوت والمشاعر الذي استهلكته الغربة الكندية اسماعيل الفروه جي. واذا كان الإنطباع العربي السائد عن الغناء العراقي هو في" الطابع الحزين" لذلك الغناء فانه اليوم تعرض الى تعديلين بارزين: الأول في سيادة ايقاع " الجوبي" بوصفه ملمحا عاما عن غناء بلاد الرافدين، كما في انطباع سائد في الأردن وسوريا ولبنان الى حد ما ، والثاني في " كلام ساذج ولحن متهافت " يختصر الغناء العراقي المتداول في دول الخليج وكما في لحن وكلام اغنية السعودي راشد الماجد " العيون " او كما تلمح اليه اغنية العراقي علاء سعد " البرتقالة" ، والأغنيتان ، كما تعزز ذلك صورتيهما المتلفزة ، تعتمدان وفرة الأجساد الراقصة لتغطية تهافتهما الفني . وفي ظل تراجع منظومة قيمية اجتماعية ضابطة، فضلا عن ضياع قيم فنية سوية بحسب افتقار البلاد لمؤسسات ثقافية رصينة من جهة، وبسبب صعود قيم التحريم في العراق اليوم، وجدت موجة الاصوات الرديئة فرصتها المثالية التالية، مع انتشار صناعة الاسفاف الذوقي والثقافي جراء موجات التهجير والنزوح وتزامنها مع ظاهرة الانحطاط الاخلاقي (الملاهي الليلية في دمشق وعواصم عربية اخرى تشهد كثافة نسوية عراقية)، لتصبح تلك المواقع، وما يتصل بها من مراكز انتاج غنائي تجارية لايردعها اي ضابط اخلاقي وثقافي، مصدرا لحشد اميين واميات يصدّرون اسفافهم الذوقي الى جمهور في داخل البلاد اكتشف ان ما يسمعه عبر اولئك هو شكل الغناء الوحيد. واذا كانت الايام الاولى التي تلت سقوط الجمهورية العراقية الرابعة في العام 2003 شهدت ما يشبه النكتة ثقيلة الدم والمدمرة المعاني لجهة ربط كل فوضى ورغبات تدميرية بانها " ديمقراطية ..ألم تقولوا لنا انتم احرار الان؟"، فان الفوضى الثقافية والتهافت القيمي شهد "ديمقراطية" من نوع "حرية سرقة الممتلكات العامة ونهب مؤسسات الدولة" ولكن في مجالات التعبير الروحية التي تعنيها الاغنية والموسيقى، فاصبح متوافرا لكل عاطل عن الثقافة والحدود الدنيا من المعرفة والالتزام الذوقي ان يصبح مغنيا وبنصوص متهافتة والحان اكثر تهافتا تعتمد ايقاعا راقصا يتيح بالضرورة لحفنة فتيات استثمار مواهبهن في الرقص والاهتزاز وارتداء ما يكشف اكثر مما يستر. اليوم ثمة مغن من الموجة اياها اسمه حسين غزال يغني "بطة راكبة ببطة"، ويقصد التغزل بحبيبته التي تتمايل مثل"البطة" وهي تركب سيارة مرسيدس يسميها العراقيون شعبيا" بطة"! كما هناك باسل العزيز وهو من منتجاب تلفزيون عدي صدام حسين يغني "ذبت الشيلة (نوع من غطاء الرأس النسائي الشعبي) ولبست بنطرون"، مثلما هناك مطربة تقدم اسوأ تمثيل لتراث الغناء الشعبي النسائي العراقي اسمها ساجدة عبيد، وهي في ملاهي ليليلة ببعض العواصم العربية دون ان تنسى اصطحاب مراهقات وصبيات صغيرات يرقصن فيما تعلن حكمتها الاخلاقية " هذا لعبنا لا تكول استهتار". وفي اطار الغناء النسائي المتراجع ثقافيا واخلاقيا السائد الان، تقول مغنية اسمها لبنى كمر وهي تخاطب حبيبها " شبيك شارب شي...حبيبي؟" او تأتي "دلوعة" الشاشات العراقية دالي لتغني "صباح الخير بالليل"! اللافت ان كثيرا من رموز موجة الرداءة الصاعدة في النغم العراقي الان، يقرونون اسماءهم بالعراق لقبا فهناك: حاتم العراقي وابنه علي حاتم العراقي، أحمد العراقي، خالد العراقي وروبرت العراقي ايضا (كي لايكون هناك مجالا للتفرقة بحسب اصول دينية)، مثلما هناك لقب البغدادي، فثمة وفاء البغدادي، وعلي البغدادي وغيرهما. لكن ما لايمكن لهؤلاء وغيرهم من اسماء وضعت لقب الساهر والمهندس في محاولة لاستعارة النفوذ والنجاح كما هما عند كاظم الساهر وماجد المهندس، هو انهم نتاج طبيعي لفترة من الانحطاط السياسي والفكري والثقافي تمسك بالبلاد وتطبع بملامحها جميع اوجه الحياة، ومن بينها الحياة الموسيقية التي تحاول شخصيات شجاعة في بغداد وعدد من المحافظات ان تدافع عن نقائها ورفعة معانيها الانسانية، حتى وان جعلها هذا تقع بين مطرقة ثقافة التحريم داخل البلاد وسندان الرداءة الغنائية وهو يلمع في ملاهي ليلية وفضائيات غنائية تروج الانحطاط الذوقي خارجها.
|