نقد أدبي  



في الشعر العراق الآن: نص "هذا أيضا سيمرّ" مثالا

تاريخ النشر       22/06/2011 06:00 AM


علي عبد الأمير عجام*
ليس غريبا ان يمسك نص شعري عراقي بلحظة راهنة عصيبة، ويخضعها للكشف والتبصر بقوة حتى وإن بكثير من الألم والقسوة، ذلك انهما دليلا حرص ومحبة وحنو وإن جاءا في سياق غاضب متبرم. وثمة العشرات من النصوص التي صارت مؤشرا على عمق ازمة عاشتها البلاد واهلها بالخصوص في السنوات العشرين الماضية: الحروب والطغيان والتهتك والخوف اللذين عناهما الحصار. في السياق هذا ذاته يأتي نص الشاعر حميد قاسم " هذا ايضا...سيمرّ"، فهو منذور لمهمة محددة: الكشف عن أهوال الإنسان العراقي في محنته الراهنة.
هذا مؤشر لافت رسّخه الى جانب نص صاحب " لقد تسممت حياته"، شعر عراقي كثير، أمكن من خلاله نقل مسار الشعر العراقي المعاصر من "سذاجة غنائية لفظية" في سبعينيات القرن الماضي الى "تهويمات لغوية" كانت استعراضا فجا للحداثة في ثمانيناته، حين بدت خلالها النصوص التي تساجل الواقع والازمة الانسانية رهن خوفين: الاول من السلطة التي ستعتبر الكشف الواضح عن تلك الازمة ادانة ضمنية للحرب "المقدسة"، والثاني الخوف من ان توصم بانها "واقعية" و"واضحة" كأن الوضوح وباء يلحق بالكتابة، لكن العقد الأخير من القرن الماضي ولضعف في "شمولية" السلطة وثقافتها الرقابية، فضلا عن إتساع الجروح والآلام : الحصار، الهجرات والخوف، تميز بصعود نهج كتابي شعري انفتح على الواقع حتى بخشونته العادية واليومية مع الإمساك ما أمكن بناصية الخصائص الفنية، وهو مسار كان ليتخصب أكثر في العقد الاول من القرن الحالي لولا تغير موجهات الكتابة ذاتها بسبب البلبلة التي أحدثها الغزو الأميركي للبلاد، وفرض ثنائيات زعزعت ما قبلها: ثنائية التحرير- الإحتلال، الديمقراطية-الديكتاتورية، الإرهاب- المقاومة، الإعمار- الفساد، ودائما مع استمرار المشهد ذاته: تكثيف الأزمة الإنسانية وتراجع قيم الحياة الرفيعة والمدنية بوصول قوى متنفذة تستند الى قيم ماضوية محكومة بمرجعيات التاريخ وعذاباته، وتنظر الى الحداثة بمنظار الإرتياب إن لم العداء.
ووسط هذا الارتباك المفاهيمي الذي انتج إرتباكا في أولويات الموقف من الهوية الوطنية وقيم العيش المشترك، وعلو الخلاص الذاتي على الانساني الأوسع حتى ضمن حدود المدينة الواحدة، تشع إضاءات في مجالات الفنون والآداب العراقية، تكون معنية بجوهر الأزمة: ماذا عن الإنسان؟ ماذا عن مصيره ومستقبل البلاد؟ وفي الشعر تحديدا قاربت هذا المعنى نصوص كثيرة، غير ان التي تولت الكشف عن الأهوال ونقد جوهرها، ومعاينة الحقيقة حتى وإن كانت مخيفة في أوجاعها الصادقة، كانت قليلة، ومن هذا القليل نتذكر باحترام مستحق نص الشاعر صادق الصائغ عن بغداد، التركيبي في بنائه الفني، المرهف في محبته للمدينة واهلها، والصادق في انتمائه الى مهمة الكشف عن فترة رهيبة عاشتها أمنا الحنون: الحرب الطائفية. مثلما نتذكر باحترام مماثل عشرات النصوص والمقترحات الفنية: مسرح، سينما تسجيلية، دراما متلفزة والقليل بل النادرمن الموسيقى والغناء، في مقاربتها اهوال العراقيين الآن وأمالهم ايضا.
 

 
حميد قاسم في غبار بغداد: 2 حزيران 2011 (كاميرا علي عبد الأمير عجام)
 
ونص الشاعر حميد قاسم يوجز لنا الكثير، فهو يوفر علينا الاستطراد في الحديث عن اتصال الادب والفنون بالراهن ومؤشراته، ويذهب الى جوهر القضية مباشرة حيث لا تصوير استعراضيا، ولا فخامة لغوية زائدة، انه كاللحظة العراقية ذاتها: واضح ومكتظ بالمعاني والدلالات، حيث : "من بين يديّ تحت البروق، وزوابع التراب/فيما الطبيعة تعد لنا حماماً موحلا/في هذا الربيع المتقلب" واضطراب "الطبيعة" هذا في مشاهده  المناخية، يحيلنا الى صورته في الإنسان " حيث المارة، يعبرون ساحة الميدان /متجهمين بملامح حجرية/ كأنهم يرتدون أقنعة متشابهة / لفرط القنوط..والخذلان" كأننا هنا حيال ثنائية غريبة: الطبيعة تتحرك والانسان ثابت، فيما هو اقرب الى البداهة ان تكون الملامح الإنسانية هي المتغيرة، وتحديدا ملامح الإنسان العراق المعاصر والمعروفة بتغيراتها حتى وإن كانت حادة. صاحب نص "كمن يصعد جبلا" يحيلنا الى جوهر "حجرية" الناس في ملامحهم التي تعكس حيواتهم" فرط القنوط ..والخذلان". وهو تكثيف موفق للغاية فلاشيء مثل غياب الفاعلية الإنسانية ما يفقد الفرد ملامحه، بل انها تجعل الناس وفقا لنظام جمعي قسري تتشابه فيها الملامح والمصائر.
هنا يأخذنا الشاعر الى مواجهة مع الكتابة وجوهرها: "اني أفكر –لأول مرة- بمعنى الحياة/ وأني سأكتب قصيدة في عمق الطين والظلام "، هي إذن الكتابة عن الحياة وبها ولها، كأنه في ذلك يرد الإعتبار الى جوهر لطالما خانته الكتابة الشعرية العراقية المعاصرة، حين أدارت له ظهرها حد الإحتقار. ومن مدخل تصالحي مع الحياة كهذا، يضيء لنا في مشهد كالح كالذي عناه في نصه، ارواحا حائرة من عراقيين انجاب روّعتهم سنوات الحروب والقمع وخذلتهم وقائع ما بعد "التحرير" وسقوط الديكتاتورية، بل هم ما انفكوا على مسار الأمل الرقيق حتى وفي صوره البسيطة: "أفكر بازهار النارنج البيض التي سقطت على ثيل الحديقة/ بانعكاس البرق على القداح" فهو حالم وباق على قيد الرهافة وإن درج مثقفو "الطائفيات المتولدة في العراق الجديد" على اعتبارها، سذاجة ونوستالجيا "حنين" للزمن القديم، كأنك لابد من خوض الوحل الدموي و البحث فيه كي تكون واقعيا ومؤثرا! فيقول راثيا وقته الروحي في بلاده ومدينته: "لقد انتهت اسطورتك الكبرى ايتها المدينة/ مذ لم تعد هناك تنورات يرفعها الهواء بلطف لتعيدها أصابع الفتيات، وهي ترتعش، الى الأسفل/ هواؤك العاصف لم يعد قادرا على إزاحة الجبب والبنطلونات/ هواؤك لم يعد قادرا أن يرينا القليل من النعومة والبياض/ لا في ساحة الميدان، ولا غيرها".
صحيح ان الرهافة والحياة البهيجة ليستا قرينتين " بالهواء الذي يرفع التنورات" ولكنهما قطعا قرينتان بمدينة وحياة منفتحة، ولا شيء مثل مدينة تحترم نساءها وتفتح امامهن سبل الوجود الحي والمؤثر كمؤشر على حيويتها، فالمدن التي تعامل النساء كعورات مدن كابية الالوان وصحراوية مقفرة، وبغداد قد تبدو اليوم على شفا حفرة من هذا المصير المخيف لولا "شغب" بعض من اهلها في عناد لايهدأ من اجل الحياة وبهجتها. 
ما يحسب لنص حميد قاسم كثير، ولكن ما يحسب عليه كثيرا، تلك المتون الشارحة الاستطرادية الزائدة، كما في المقطع التالي وغيره: "أكتب في الظلام../معي قنينة خمر/ وكيس كبير مليء بالجوز والفستق واللوز/ والرطوبة/ وطاسة من اللبن الرائب..وملعقة/ ومعرفة ساذجة بالانكليزية" فهي تسلب الاضاءات الروحية سحرها وكثافتها الدلالية، وتحيل النص احيانا الى منطقة تفقده التماعاته وتخفت بعضا من اشعاع اوجاعه الصادقة وتدفقها كما في آخره الذي يأتي صادما ومباشرا وحقيقيا ايضا: "الحياة هنا..سافلة/ وملوثة بالوحل/ الوحل الذي يلوث أحذيتنا/ ونهايات بنطلوناتنا/ وأرواحنا".


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM