(رم) وطارق الناصر: ثمة فسحة للموسيقى الجميلة في أوقات صعبة

تاريخ النشر       07/05/2011 06:00 AM


عمّان- علي عبد الأمير
ما انفك المؤلف الموسيقي والملحن الأردني طارق الناصر، يقدم ما يثير الجدل فضلا عن ملامسته الروح بقوة، فهو بعد ان رسّخ حضورا لافتا في ميدان الموسيقى التصويرية لأكثر من عمل تلفزيوني وسينمائي عربي، ونال عنها جوائز بارزة عدة، ليس أقلها اهمية جائزة افضل موسيقى تصويرية عن مسلسل "الملك فاروق"، يعود الى ميدانه الشخصي الحميم: عمله صحبة فرقته "رم" التي باتت علامة فارقة في الموسيقى الاردنية والعربية المعاصرة. وكان الحفل المشترك للفرقة صحبة "نيدرلاندز بليزرز  انسامبل" الهولندية مؤخرا في العاصمة الاردنية عمّان، مؤشرا على حيوية المقترح الذي تقدمه فرقة صاحب موسيقى "ياروح" في عالم النغم العربي المعاصر، وكذلك على مفهوم "إتصالي" مع الاخر قائم على الانفتاح وعبر لغة انسانية مشتركة، وهو مفهوم كان خبره الناصر على ارض الواقع أكثر من مرة عبر حفلات مشتركة مع فرق اروروبية عدة، فثمة عرض مشترك مع فرقة "بكا" الموسيقية السويدية في حفل افتتاح "أيام عمان المسرحية"، العام  1999، و مع الموسقي الهولندي هيرمان فان فين وفرقته في أمستردام العام 2004، وآخر مع فرقة "شبلي" الألمانية ضمن "مهرجان جرش" في دروته الرابعة والعشرين العام 2005، وعرض مع فرقة "بريباخ" الاسكتلندية العام الماضي.
 


الناصر وفرقة "رم": علامة موسيقية فارقة
 
وفي حين تتقلص فسحة التلقي مع الموسيقى الجادة كثيرا هذه الأيام، عربيا على الأقل، لاسيما ان ايقاعا صاخبة وعنيفة يسيطر على المنطقة وإهتمامات اهلها، الا ان الناصر، وفي جوهر موسيقاه المتصل بالروح عميقا، إمكن له ان يجد مدخلا بين موجات الصخب العالية، ليقدم من مقطوعاته ما يؤكد الجوهر الانساني وهو ما مس الجمهور الذي غص به مسرح "قصر الثقافة" في عمّان، والحضور الواسع أكد ان لهذا الفنان إمتيازا يمكّنه من الوصول الى الناس حتى وإن كان هناك صخب واسع يدور حولهم، ذلك ان موسيقاه واغنيات فريقه "رم" هي مزيج من الجولة الرقيقة والتصوير البارع لأمكنة وموروثات انسانية ومشاعر تبدأ من الفردي ولا تنتهي بالافق الواسع للبهجة الجماعية، وأعماله التي قدمها في الحفل المشترك: "نور"، "الجوارح" و"عتيق" تؤكد هذا المعنى بقوة وتحمله مرهفا وروحيا شفافا الى المتلقين.
ويرى صاحب  موسيقى  "النار" التي ابدعت  فرقته في تقديمها بالاشتراك مع الموسيقيين الهولنديين، ان "الاوقات العصيبة التي يعيشها الإنسان العربي حاليا لاسيما لجهة التحولات السياسية والإجتماعية العاصفة، قد لا توفر للموسيقى الصرفة (الألية)  فرصة ممكنة للتواصل مع الناس، فعادة ما تكون هذه الاوقات مناسبة لاغنيات تناسب اللحظة الصاخبة والتأجيج العاطفي، ولكننا سنؤكد على الجوهر الانساني في موسيقانا، لاسيما اننا نقدمه باساليب قريبة الى التلقي المعاصر ودون مبالغات وشعارات". وبدا هذا  المعنى حاضرا فعليا في الحفل الأخير، فمن انتقالات "نور" في مساراتها اللحنية الأقرب الى تأمل الوجع الإنساني الى "جوراح" في تصويرها طائفة واسعة من المشاعر حتى أوصلها العزف البارع لاعضاء "رم" الى نقطة بدت بعيدة عن صلتها كترجمة او إفتتاح لعمل درامي بالاسم ذاته وشاع في نهاية عقد التسعينيات من القرن الماضي.
هذا المؤشر لجهة الإحتفال بما يعيشه الإنسان في منطقتنا فرديا وجماعيا في آن، انفتح على مسار آخر مثير عبر "الإتصال مع الآخر" ثقافيا وموسيقيا بالتحديد، فمثلما عزفت "رم" اعماله منفردة، قدت بالاشتراك مع الهولنديين اعمالها: "نور"، "ليل"، "جرش"، و"نار"، مثلما عزفت  من اعمال الضيوف وتحديدا ما كتبه جون ساثاس واستور بيازلا. وأوضح هذا المسار ان المشترك الإنساني فسحة ممكنة عربيا، ويمكن لها ان تتعزز ثقافيا وروحيا عبر النغم الرفيع، حد ان الفرقة الهولندية ردت على أهل المكان بان عزفت لوحدها من اعمال "رم" كنوع من التحية لفن يقرب الناس ويوسع من المساحة الانسانية المشتركة.
وفي حين بدت الاوركسترا الهولندية أقرب الى تأمل الانسان الأوروبي لاسيما انها تعتمد الالات الهوائية حصرا، جاءت الايقاعات المشرقية الروح والهوى من "رم" الأردنية لتمنح التأمل عمقه المتحرك الإنساني الموار بالكثير من الإنفعال الحي والمبهج، فضلا عن تلك اللمسات الرقيقة في عزف طارق الناصر على البيانو، وهي التي أخذت من الروح المعاصرة الكثير عبر اتصالها الحي بفنون موسيقى "الجاز" و"السوينغ"، اكثر مما عنت بتقديم البيانو كآلة غربية معروفة في كلاسيكيتها، وفي اداء يستمد حيويته وتاثيره من الاداء الحي الذي يسبغ على الأعمال طابعا مثيرا يجعلها اكثر حضورا من اصلها كما هو مسجل في الإسطوانات وحفظته ذاكرة الجمهور.
نحو 30 موسيقيا أردنيا وهولنديا  إلتقوا في عرض مشترك بعمّان، في حدث تكرر بعد ايام في المدينة الجنوبية المطلة على البحر: العقبة،  والحفلان أكدا براعة الناصر مؤلفا موسيقيا من طراز خاص، يجمع بين الهوية النغمية المحلية (التصوير العميق للموروث النغمي الاردني والعربي) والافق الانساني الواسع حد الاشتراك بثقة مع موسيقيين اوروبيين يستندون على ارث نغمي ضخم.

*نشرت في "الحياة" اللندنية
http://international.daralhayat.com/internationalarticle/264084


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM