علي عبد الإمير عجام* يواصل العالم المعاصر في تجلياته الثقافية إحداث المفاجآت المتتالية، منذ ان بدأت وسائل الإتصال "تهديم" الثوابت التقليدية عن التلقي المعلوماتي والفكري، وكانت التغييرات في شكل الكتابة من بين جملة التجليات الجديدة للموجة الثانية من ثورة الاتصالات، اي الإنترنت، حتى بات المقروء على الانترنت من المعارف والثقافات اكبر بكثير مما هي الحال في القراءة الورقية: صحف، مجلات، وثائق ورقية وكتب. وفي حين ظل الكتاب بشكله التقليدي اهم مصادر الاتصال مع نصوص المعرفة والاداب والبحوث العلمية، الا ان هذه المكانة تعرضت منذ نحو عشر سنوات لمنافسة من مصدر هو ذاته الذي ازاح عرض الصحافة الورقية المكتوبة عن مكانتها، اي الكتابة الرقمية، فكان الكتاب الرقمي بدأ ليغير لا شكل التلقي للكتاب والقراءة، بل الوصول الى الالاف من النتاج الفكري والادبي الانساني عبر اصدارات الكتاب الرقمي . وقبل ايام اعلن في نيويورك بالولايات المتحدة الأميركية عن تصدر مبيعات الكتاب الإلكتروني جميع أشكال الكتب الأخرى، بما في ذلك الكتب المطبوعة، للمرة الأولى، وفقا لتقرير في رابطة الناشرين الاميركيين، حيث بلغ مجموع مبيعات الكتاب الإلكتروني نحو 90 مليون دولار في شباط الماضي، بزيادة 200 بالمئة، مقارنة بالشهر نفسه من العام الماضي. هذا المؤشر فضلا عن مؤشرات اخرى كالتي حملها اعلان نيكولاس نيغروبونتي، مؤسس "كمبيوتر محمول لكل طفل"، يقدم اعلانا عن أن أيام الكتاب التقليدي أصبحت معدودة، بل ان نيغروبونتي يرى ان ذلك "سيكون في غضون خمسة أعوام" وهو ما يعني ان مجتمعات ستطوي مرحلة لم تتعرف اليها مجتمعاتنا بشكل حقيقي ولم تحدث فيها تأثيرات عميقة الا في حدود نخبوية، بل ان التحدي الذي تفرضه التطورات التكنولوجية في اشكال التلقي المعرفي لم تعرفه بعد حتى النخب المتعلمة في مجتمعاتنا ومنها مجتمعنا العراقي. اليوم تجد في كل مدينة اميركية واوروبية على الارجح مزادات كبرى لبيع الكتب الورقية بابخس الاثمان في عملية تصفية هي في حقيقتها تحول من اسلوب للتعاطي مع الكتاب الى اسلوب آخر في مؤشر على تحول ثقافي بارز، فالمسألة ليست مجرد تغيير شكل الكتاب من ورقي الى رقمي يعتمد تقنيات الكومبيوتر بالدرجة الاساس، بل تغيير مفاهيمي، قائم على الدخول الى عصر الاتصال الواسع المديات، ذلك ان الكتاب سيكون مشاعا، عبر جهاز القراءة الرقمي الخاص و عبر الكومبيوتر وعبر اجهزة الهاتف النقال المتطورة، اي ان الكيان المادي للكتاب كورق وعلاقات قراءة خاصة، سيتحول الى مدار آخر يمكن فيه ان يقرأ الانسان اكثر من كتاب واكثر من مصدر في وقت واحد، بل ان باحثين باتوا يقارنون بين نص وآخر بلمسة زر واحدة عبر انظمة البحث في اجهزتهم الخاصة، بحيث يمكنهم الوصول الى ذات العبارات والافكار كما وردت في مؤلفات اخرى غير التي يقرأون. ان تقنيات الكتاب الرقمي تسهل نقل المعرفة الى مديات كبيرة، فالكتاب الورقي لا يمكن توزيعه على عدد كاف من الناس، حتى ان جهات اكاديمية اميركية رغبت بالتبرع بالالاف من المراجع للعراق، وجدت صعوبة كبرى في شحن تلك الكميات لتكاليفها الباهظة، بينما هي تجد في التقنية الحديثة إمكانية تحميل مئات الكتب في أجهزة الكمبيوتر المحمولة "لابتوب" الذي تقوم مؤسسته بإرسالها إلى جهات كثيرة في العالم، بل انها حين تحمّل 100 كتاب في الجهاز المحمول الواحد، وترسل منه 100 جهاز، فهذا يعني وصول 10 ألف كتاب بيسر لايتوافر مع نفس العدد من الكتب بالنسخة الورقية. ويعتقد مانحون أميركيون ناشطون في مجال توسعة المعرفة الحديثة أن البلدان النامية ستكون في الواقع أسرع من الدول المتقدمة في تبني الكتب الإلكترونية، منوهين الى مقارنة الكتاب بما حصل للهاتف: "تماماً كما حدث للهواتف المحمولة فأنها أكثر انتشاراً في كمبوديا وأوغندا لأنه لم يسبق لهم امتلاك هواتف من قبل، وبالطريقة ذاتها سيتبنون الكتب الإلكترونية أسرع منا." ومن التغيرات التي ستصاحب تحول الكتاب من نسخته الورقية الى الرقمية، تقلص دور المكتبات العامة كأماكن لقراءة الكتب، خصوصا مع نشر هذه الأخيرة على الانترنت، وتحولها إلى مواد إلكترونية، وهو ما دفع المكتبات العامة بتغييرواضح في دورها، بعد أن رأت أن كتبها ستحتل مرتبة ثانوية بعد غزوها من قبل العالم الافتراضي، وسيخبو دورها كوسيلة لنشر المعلومات بين الناس، وعوضا عن ذلك قررت السماح لروادها باستغلالها كأماكن لإثارة النقاشات والحوارات سواء العلنية أو تلك التي تتم عبر مواقع التواصل الاجتماعي على الانترنت بما يجعل المكتبات امكنة حرة تسمح للناس بللوصول إلى المعلومات والمشاركة في اشاعتها وترويجها.
*نشرت في صحيفة "المدى" البغدادية
|