مقالات  



من ايقونات الوجدان الى تكريس الشهوات

ِعلي عبد الامير

تاريخ النشر       11/03/2011 06:00 AM


مثلما اختزلت الموسيقى العربية بالاغنية، واختزلت الاخيرة بالفيديو كليب، اختزلت "النجومية" الموسيقية العربية من التأثير الذوقي والاجتماعي والفكري حتى منتصف القرن الفائت بالايحاءات الشكلانية وانبعاث الشهوات الجسدية والاستحواذية، وبما يعنيه اقصى احتقار ممكن للعقل.
ذلك لايبدو غريبا عن طبيعة صنع النجوم بوصف ذلك "بيزنس"، وبما ان رأس المال العربي، وتحديدا الجديد منه، نما وتعملق وفق ظروف صراع غير متكافىء تم خلالها اقصاء الطبقة المتوسطة (صاحبة المشروع التنويري العقلي)، فقد وجد في طصناعة النجوم" ميدانا، لا للربح وحسب، بل في اقصاء نقيضه: العقل ونتاجه الروحي اي الذوق الرفيع.
واذا كان "نجوم" الغناء والموسيقى العرب حتى قبل خمسين عاما "ايقونات" وجدانية وفكرية لجهة قدرتهم على التأثير في مجال الذوق الشعبي بما يسهم في اعلاء روافده: محمد عبد الوهاب، ام كلثوم، عبد الحليم حافظ ، فيروز والرحابنة  وغيرهم في غير بلد عربي، فان نجوم اليوم  يعتمدون الايحاء المباشر عبر حضور غارق في بواعثه الجسدية والمادية، فهم حاضرون صورة وصوتا ودلالة في التلفزة، في الانترنت وفي الهواتف النقالة مثلما هم حاضرون في الراديو عبر السيارة او فناءات مكاتب العمل ناهيك عن احتلالهم مساحة لا يحتل عشرها العلماء والمفكرون والاطباء واقوى الجهابذة.
النجوم سابقا كانت تصنعهم مؤسسات فكرية حتى وان كانت خاصة، بينما تصنعهم اليوم شركات انتاج الغناء السائد وقنواتها الفضائية. النجوم سابقا تصنعهم الموهبة والجهد والمعرفة والحضور الانساني، بينما اليوم  تتكفل الجراحات التجميلية وتوابل الابهار الإخراجية في الفيديو كليب، لصنع نجوم من "ذهب" حتى وإن كانوا من معدن "رخيص".
الوصول الى النجومية، مضمون عبر تلميع الشكل الخارجي وحفنة الاجساد الراقصة والتعديلات الاساسية على الصوت، وهو ما يكفي لاختراق المخيلة الشعبية التي صارت مأخوذة بما يخفف الكبت الجسدي وينعشه ايضا، فيما كانت قبل عقود قليلة  مأخوذة بكيفية الوصول الى اضاءات المعرفة والفكر.
صحيح ان الكبت الجسدي كان موجودا ايام "النجومية النظيفة" لكن وسائل التخفيف من احتقانه كانت عبر وسائل تعميق العقل والانتاج الروحي الذي يدعم المشاعر الخيرة، بينما اليوم ثمة جمهور يعيش هوسا بنجمات الغناء وحياتهن وسط صعود في قدرة المثيرات المغنيات على التأثير في الحياة الاجتماعية والفكرية وتحديدا بين الاجيال الشابة، فيما يرافق ذلك انحسار لقدرة قيم المعرفة العلمية والانفتاح الفكري والثقافي.
ان قيم الانفصال عن الشأن العام اذ بدأت تسود بين الشباب عربيا بعد سلسلة من الهزائم والانكسارات العسكرية والفكرية، واتساع الفقر والتفكك الاجتماعي، انتجت كلها كعوامل، ظروفا بدت معها وسائل الترفيه حاجة للتنفيس عن حالات الكبت والضغط والترويح عن اجساد وعقول متعبة.
وفي حين بدت الثقافة الرصينة والمستويات المعرفية تتراجع في مستويات شعبية  كانت تعاني ضغوطا جبارة من "القبح" الاقتصادي والاجتماعي حتى بدت وكأنها اقرب الى الهشاشة، كان خيار "صناع النجوم" تقديم ايقونات جسدية "جميلة" تعادل ظروف القبح تلك، حتى وان كانت تلك الايقونات دمى فارغة من اي مستوى روحي يدل على موهبة ما، اللهم الا موهبة الاثارة الجسدية، وبحسب تحول ذوقي كهذا امكن صناعة "نجمة غناء" من نوع يكتسح كل السدود الذوقية كهيفاء وهبي، فيما هي وفي حدود الاختبارات الاولية للصوت لايمكنها ان تكون حتى ضمن كورس غنائي مبتدأ!
انها جميلة وكان، بحسب بعض التعديلات، يمكنها ان تكون نجمة سينما مثلا، او بطلة مسلسلات درامية، او تطور حضورها كنجمة اعلانات تلفزيوينة،  لكن ما حصل هو انها كانت نتاج موجة شكلها "صناع النجوم" في مجال الغناء: شركات ترتبط بها شبكات اعلام وكتابة ارتزاقية، وقبل ذلك انظمة اجتماعية وفكرية انتجت مجتمعات منهكة اقتصاديا وفكريا، حتى باتت "النجمة المثيرة" محط انظار البيوت العربية الثرية من "المحيط الى الخليج"، تتهافت عليها حفلات وصخب ليل وحركات راقصة اكثر من رغبتها بالاستماع الى صوت يغني، لتزيح الفتاة الدلوعة موقعا كانت فيه الراحلة ام كلثوم حين تغني فهي "توحد المستمعين العرب من المحيط الى الخليج".
هنا نتذكر صعودها الصاروخي عبر فيديو كليب اولى اغنياتها "اقول اهواك" بثوب احمر وجسد راقص يغني بتأوه "قلبك ثلج قلبي نار" وصولا الى "رائعتها" التي حملت عنوان "بوس الواوا". انها قصة صناعة نجمة غناء لكنها لا تغني بالصوت، فالغناء يمكن بالجسد احيانا لاسيما ان الجمهور يسمع بالرغبات المكبوتة ضمن مشهد عنوانه الابرز: الابتذال.
الامر لا يتعلق  بظاهرة هيفاء وهبي، بل لا يتعلق حتى بالمغنيات، فثمة مغنون ورجال "فاتنون" في مشهد الموسيقى العربية المعاصر، هو زمن صعود "البزنس" العربي الفني في شراهته وابتذاله الانساني، والنتاج الموسيقي لذلك الزمن لابد ان يكون مشابها له وعاكسا له انطلاقا من فكرة ان الموسيقى هي مرآة  عصرها، غير ان هذا الانطباع لايعني احكام اغلاق الباب على مواهب حقيقية، فهي ان حضرت وحاولت التاثير ذوقيا فانها لن ترقى الى "النجومية" التي وصلها موهوبون شكلوا ما بات يعرف فن "الزمن الجميل"، ذلك ان من يرتقي النجومية اليوم هم ابطال "الكليب الجميل" وعماده من عناصر الحضور الجسدي المبهر واستدعاء الغرائز في فوضى مشهد كالذي يعنيه ايضا صعود قيم التخلف الفكري عبر وسيط علمي حديث اسمه الانترنت.




 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM