نقد أدبي  



الشاعرة ندى كلندوس تكتب اسرار غربتها: نبتت سنابل بابلية على قبري

ِعلي عبد الامير

تاريخ النشر       10/02/2011 06:00 AM


رغم اجادتها الانجليزية وقدرتها على كتابة اشكال من النصوص الادبية والصحافية بلغة الشاعر والت ويتمان، الا ان الكاتبة الاميركية من اصل عراقي ندى كلندوس اختارت العربية لتكون لغة كتابها الشعري الاول "انا وصديقتي" الصادر حديثا في دمشق.
في ديوانها تبوح كلندوس كثيرا، ليس اعتمادا على كشف للذات ووضعها تحت مجهر المراجعة والسؤال، بل في تكثيف مدهش للصورة، واختراق للمألوف من التعبير بلاغيا وايقاعيا ايضا، رغم ان النصوص مكتوبة وفق "قصيدة النثر". ولنراجع صورا شعرية وايقاعات كالتي يحتشد فيها هذا المقطع من قصيدة " جسد من طين":
"بأكفنا المهشمة
بيأسنا
بعتماتنا، وهي أمّ لنا"
وفي الديوان، ترد مفردة "طين" ومرادفاتها اللغوية والدلالية: الطمي، نهر الفرات بوصفه طينا خصبا، كثيرا في مؤشر على ارتباط عميق للشاعرة بمكانها الاول، لا بل انها تعتبر الفرات مثالا، على العاشق ان يرتقي اليه كي يظفر بها:
"لا
لم تكن فراتيا
بما يكفي أن
تكون سرير بنفسج"
هي مأخوذة بالطين، في دلالة على ما تفتقده في مكانها الاميركي حتى وان كان بهيجا وغامرا بالضوء، ذلك ان الطين هو ما يثبت في روحها وتستقر عليه، فيما هي قلقة حد التأرجح في ريح، وهو نقيض الاستقرار والنمو والتفتح الذي يأتي به الطين:
"أنا من مدينة الضوضاء
مدينة ضلّت طريقها
بنايات وشرفات تملؤها ألزهور 
 يعبق ألمكان بعطرٍ
 لا يذكرُني بالوطن  
يُزعجني كثيراً ألانتظار
 ساعتي أوشكت على  المللِ"
نلحظ هنا، انه وعلى الرغم من مدينة بشرفات من زهور، ورغم عطر فوّاح الا انه يظل مكانا لايعنيها كثيرا، بل انه "مدينة الضوضاء" ان شئت، بينما هي تقرن وجودها باشياء تعيدها الى الوطن، حتى وإن كان هذا سنابل بابلية ترقد على قبرها:
"اه لو تدري
 كم مرة إحتفل
هذا
الجسدُ الطيني بطميك
الذي قسمه الى ضدين
فتعتّق لونك
على الجرفين
ونبتت
سنابل  بابليةٌ
على قبري"


وحين تستحضر طين البلاد وطميها، فهي ايضا تستحضر "صاحب المعطف" الذي كان يخنق تلك البلاد واهلها بوجوده المتعسف الثقيل، لكنها لا تأخذ البلاد بجريرة  "الجالس على الكرسي المرصع بالجواهر"، فثمة قسوة تبعث على جعل الانسان في مواضع هي الارذل، لكن هذه لن تزحزح فكرة الخصوبة، فكرة الطين والنهر، الفكرة الرافدينية الساحرة:
"عندما كان صاحب المعطف
 جاثما على الكرسي المرصع بالجواهر
كانت أقدامه
مطبقة على مسقط رأسي
كنت اقبع حينها في أرذل زاوية
من كتب التاريخ" 
واذا كان نجاحها المهني والثقافي والانساني تحقق في مكانها الاميركي، الا ان ندى كلندوس بقلق من افتقادها حرارة الطين، وخصوبة ما ينبت فيه، وما يتصل به من انهار تتدفق في الذاكرة والروح، تعتبر وصولها الى المكان الذي شكل نوعا من الحلم والتحدي بمثابة "النهايات العقيمة":
"هل الوصول الى قمم الجبال
 يجلبُ النهايات العقيمة؟"
هي حيرتها، هي تخاطب ذاتها بوصفها صديقة لها، من هنا كان عنوان الديوان "انا وصديقتي"، فثمة انا الواقعية المنغمسة بتفاصيل العمل، والمهجوسة بمتطلبات العيش وفق صرامة "مدينة الضوضاء" وايقاع ضجيجها، مثلما هي الاخرى "صديقتها" تلك الحالمة، الماسورة بطمي البلاد ومياه انهارها، وعن هذا الانقسام الروحي، تكتب:
"صديقتي
تفيض نصف قمر ونجمتين
لكن الدنيا تفيض
صديقتي ومعها وردتين"
هي المرأة الاخرى: صديقتها، التي إن فاضت فهي تشع ضوء قمر ونجوم، وإن فاضت الدنيا (لاحظ فاضت، بدلالتها المتصلة بالنهر والطمي)، فهي تفيض ذاتها الاخرى الهائمة ومعها وردتين.
رقة متناهية هنا، حتى وان بدا انقسام الانسانة هنا مؤكدا بين وجود حقيقي لكنه مبعثر، و وجود متخيل لكنه مكتمل:
"ياصديقتي
بعض رسمي، ظلك
وبعض ظلك، وجهي
أعوم دوما بوجهك
وتحتمين دوما
 بظلي"
الانقسام الوجداني والكياني هذا يبدو قابلا للتصالح والتوحد مرة اخرى دونما انفصام، ولكن هذا يتحقق في مكان محدد، وليس في افتراضات امكنة سعيدة مضاءة ومبهرجة، انه مكان من شمس ونخيل:
"سأذهب الى بعضي
 فعلى بُعد شمسين ونخلة
قد التقيني"
ومع كل هذا الانسجام لجهة ان الاغتراب المتحقق في المكان الجديد، والحياة الفياضة بالضوء والمتزمتة بايقاع يومي متكرر، يقابله خلاص هو العودة الى مكان يخفق فيه الطين روحا وخصوبة، الا ان الشاعرة لا تتوصل الى حل يقيني كهذا، انه تنتصر لاعمق ما في الشعر حين يعلي الحيرة الانسانية، ويجعلها رهانه الوحيد:
"أنا 
 بين ساعة المنتصف
وساعة العمق في الأنكسار"


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM