البحث عن فيروز في بغداد

علي عبد الأمير

تاريخ النشر       20/10/2009 06:00 AM


علي عبد الأمير عجام

والشتاء يكاد ينهي العام 1975، سهر ستة اصدقاء في بيت صديق سابع بـ"حي الشعب" الضاحية الشمالية للعاصمة بغداد. وكعادة الشيوعيين العراقيين ايام تمتعهم بحرية العمل بعد اتفاق "الجبهة الوطنية" كانت الليلة نقاشا محتدما، ثم مالبث ايقاعها ان انعطف شعراً واغنيات، وكان لا بد من فيروز التي كان الشيوعيون العراقيون رسل محبتها ودعاة فنها الرفيع، بل أن أغنيات في لقاءاتهم غير فيروز كانت تبدو خروجا على النص، ومن رقّة "رجعت الشتوية" الى الحزن العميق في "ما في حدا"، ومن "ليالي الشمال الحزينة" إلى صباح يشرق في كل حين مع "بحبك ما بعرف" وصولاً إلى غناء قصائد كانت توجتها صاحبة "الأندلسيات" بنشيد ما انفك اجمل ماغني عن عاصمة الرشيد " بغداد والشعراء والصور" الذي لطالما وحّد العراقيين حتى في اوقات خلافاتهم الدموية، فالحكم في بغداد كان يعتبر النص له، فيما المعارضون على اختلاف أطيافهم كانوا يتمسكون به ويبثونه في اذاعاتهم.


كاتب السطور يقرأ من شعره في أحد المهرجانات الجامعية 1977

قرأت للأصدقاء من شعري، وانتقلت لاحقاً إلى قصيدة كنت مغرما بها من ديوان" الطائر الخشبي" لحسب الشيخ جعفر الذي كنت أحب فيه " انكساره"، وكان البرد يتسلل الينا، فنعانده بالغناء، وكانت معنا "رفيقة" التقيها للمرة الأولى، وهي تجيد غناء فيروز وتختار لها الأكثر عذوبة من بين غنائها العذب، وتسلل الدفء الينا مع صوتها مشرقا مع "سألتك حبيبي" وحملت لنا بحنجرة طرية تشف عن روحية فياضة "فايق ياهوى"، وما زاد في رقّة الليل انها فضلت أن تغني في جنبات ضوء نحيل أرسلته شمعتان في زاويتين من الصالة الفقيرة الآثاث ولكنها بدت جنة الحالمين حينها.

من بين السبعة كنا في الجامعة أربعة، فضلنا النوم حتى وقت متأخر، فيما تركنا نستسلم الى النوم صاحب البيت وزوجته اللذان ذهبا الى عملهما في دائرة حكومية، فيما غنت الفيروزية الهوى، وهي تعد كوبا من الشاي في المطبخ، " دخلك ياطير الوروار" قبل خروجها إلى عملها في "مصرف الرافدين" وخلفها خيط من عطر رقيق تركته يضوع في الممر مابين غرفة النوم والصالة وصولا الى الباب الخارجي .

استيقظت على أثرٍ من جمال صباح معطر وموقّع بلحن فيروزي، وقريبا من فراشي وجدت ورقة وفوقها كاسيت : "صباح الخير، اسمع " لولو" أحبه أكثر من " ميس الريم"، وتوقف عند ألحان زياد الرحباني". وكانت اغنيات المسرحية الغنائية الأخيرة مثار نقاش بين محبي فيروز من الشباب الشيوعيين .

لم اكن استمعت الى أغنيات مسرحية " لولو" وموسيقاها كاملة، وكانت فرصة مع الشريط للتوقف عند موهبة مبكرة لزياد الرحباني الذي كان ابهرني في موسيقى افتتاح " ميس الريم"، وافرحني ان "إذاعة بغداد" اختارت تلك المقطوعة ولسنوات طويلة لتكون اشارة برنامجها العتيد " ما يطلبه المستمعون". مرت الأغنيات دون تركيز مني فكنت سرحت مستعيدا (صفاء) وهي تغني على ضوء كان يرتعش على وجهها، ويضيء استدارته وخصلات من شعرها، ومحاولاً مد يدي إلى هواء يحمل عطرها كأنني أحاول الإمساك بيدها التي كانت كتبت في الورقة دلعاً لإسمي: علاوي.

وعلى موج من رقة فيروز وحنان اغنياتها، ادمنت اللقاء بصفاء في حديقة "المركز الثقافي البريطاني" الذي تحول ملتقى ثقافيا للشباب الشيوعيين واصدقائهم  ولقربه من عدد من الكليات: الآداب والصيدلة واكاديمية الفنون الجميلة ومن الجامعة المستنصرية ايضا، غير انه لم يكن قريبا من كليتي البعيدة جدا والتي كنت أهرب من وحشتها وصرامة دروسها الطبية الى ايقاع تزينه فيروز باشواقها، وصفاء بدفء حضورها. أدمنا معا لقاءات وسهرات وقراءات شعرية وعروضاً سينمائية ومسرحية ورحلات مشتركة مع أصدقاء إلى بساتين وغابات وشواطىء، لم نكن نقارب وصف " المحبين"، لكننا كنا بين الأصدقاء أجمل العشاق،  تمسك بيدي وتغني " دقيت طل الورد عالشباك"، نمشي من الوزيرية حيث "البريتش كانسل" مسافة طويلة ثلاث مرات أسبوعيا مخترقين شارع الرشيد المحتفي بنا وبالحياة وصولاً الى الباب الشرقي، ومنها تأخذ باصا الى بيتها في "بغداد الجديدة"، لأعود مسافة قليلة حيث أصدقاء ينتظرونني عند مائدة نستعيد حولها نقاشاً فيما خص ابرز الموضوعات التي نشرتها صحيفة "طريق الشعب"، واذا كانت ضمت قصيدة، فالحوار سيكون تعليقا عليها. في المكان، " ليالي السمر" تنقضّ أغنيات ام كلثوم على الأثر الفيروزي ويتكفل غناء السهارى، الذين غالبا ما يرفعون عقيرتهم، بإلغاء أثر الإثنتين معاً!

لم أقل لها أحبك ولم تقلها لي، غير اننا وصلنا في تجاذب روحينا إلى أبعد من الكلمة وقاربنا معناها، ولم تقف "مسيحيتها" حائلا عن ان تشترك في حياتي بالرغم من" اسلامي"، كنت سعيدا بها مثلما كانت تقول لي "جعلتني أبدو احلى"، كنت انهض من جلستي مع الأصدقاء واتصل بها تلفونيا لأقرأ لها بيتا من الشعر وترد علي غناء "بعدك على بالي"، او اسألها "هل احببت نيرودا في مذكراته" لتجيب "أنا أحب لوركا أكثر". كانت تحب حديثي معها بالتلفون آخر الليل، وكنت استمع فيما الكلام ينساب رقيقاً منها الى صوت فيروز، و تختار صفاء من اغنياتها ما يناسب الليل، فهناك "عتاب"، "اذكريني"، "رجعت في المساء"، "امس انتهينا" وغيرها، واسألها كيف تختار هذه الأغنيات وكيف وجدتها مناسبة لوقت متأخر، لتقول: "في هذه الأغنيات سواد الليل وفرصة يمكن الإنسان خلالها لمراجعة مافعله نهارا، فيها بوح ومراجعة للذات" .

لا جديد فيروزيا في العامين التاليين: 1976 و 1977، وهو ماكان يبعث عند صفاء حزنا ثقيلا، تحاول تخفيف آثاره بأن تذهب الى الكنيسة وتغني "جمعتها الحزينة"، وكانت تبتكر وسائلها الخاصة لمعرفة اخبار فيروز وموقفها من الحرب اللبنانية، وكم ابهجتها لمستي لإخراجها من زعلها على صمت مغنيتها الملائكية، حين حملت لها " لولو" في اسطوانة مزدوجة وعلى غلافها تنساب فيروز بثوب انيق وبوقفة رشيقة، وردت علي وهي تغازل لون بشرتي" وقف يا اسمر" .

الخريف أجمل الفصول عندها، وكانت تكره وجوده في الأدب دلالة على الذبول أو الخفوت، وفي يوم من آواخر خريف 1978 اتصلت بها وكان ان ابتهجت الأشجار بمطر خفيف وقلت" انا في البريتش كانسل .. انتظرك" فردت مبتهجة الروح " ياأنا .. ياأنا"، وحضرت انيقة سريعة الخطى، وكانت طافحة بحبور عجيب "ياه ..وحدنا في الحديقة، كم أنا سعيدة بهذا الخريف الجميل"، وكعادتها امسكت بيدي وقالت "أنت حلو وتكون حلو أكثراذا تشرّبني كوب نسكافيه بالحليب"، وبعد ان خطوت خطوتين سمعتها تغني غير مبالية بالمطر الذي ازداد هطولا "نسم علينا الهوى" .

شربنا واستمتعنا بدفء لذيذ، وقطعت صفاء ايقاع جلستنا الهادىء الحميم، لتقول بهدوء عجيب: "علي ..سأخبرك امرا أرجوك لاتناقشني فيه ولاتسأل عن اسبابه، هذه آخر مرة نلتقي فيها"! 

وقعت على الفور في بئر عميقة، ومثلما أرادت، احترمت رغبتها واكتفيت بالتدخين والتطلع الى اغصان الشجرة التي جلسنا تحتها وقطرات المطرالمتعلقة بها تسقط على اكتافنا .

ثلاث سنوات وآلاف الساعات جمعتنا، غير انني لم أقل لها أحبك ومثلي لم تقلها، غير أننا ودونما اتفاق قلناها معاً ونحن نفترق، ونحن نخطو خارج المكان، بينما كانت صفاء تغني دون ان ترفع رأسها نحوي "سألتك حبيبي". حتى وصلنا الباب الخارجي واستدارت نحوي لتكرر بصوت مختنق بدموع "احبك" ورحلت.

تقطعت بنا السبل، وزاد طلبها في أن لا أسال أحدا عنها من رعبي، وفاقمت الحملة التي بدأتها السلطة الحاكمة ضد الشيوعيين من الوضع سوءاً، ومثلما الحب رقيق وانيس في اغنيات فيروز غير انه يغيب فجأة، ليصبح اكثر عذوبة، غابت صفاء وكان آخر ما وصلني انها رحلت خارج البلاد للتخلص من الملاحقة وخطر الإعتقال بعد القبض على صديقنا صاحب البيت وزوجته، اختفيت انا فترة اشهر وتركت الدراسة مؤقتا ( لم يكن مسموحا للطالب الجامعي السفر الا بموافقة خاصة) وعملت بائعا للكتب تارة وللأسطوانات والأشرطة تارة اخرى و" كاشير" في مطعم ايضا، ولكن كل تلك الفوضى لم تخرجني من بئر غياب صفاء وقرارها المفاجىء، غير انني أدمنت ما أورثتني اياه من غناء فيروزي يؤاخي الروح ولايخذلها، وكنت اغالب حزني بـ" ضوى الهوى قناديلو".

عدت الى بغداد بعد اسبوع من سقوط الحكم الذي تحولت الى معارضته علنا اثناء اقامتي خارج البلاد لنحو عشر سنوات، لم اكن منجذبا الى شيء ضائع، قدر ولعي بالبحث عن فيروز في بغداد، عن فيروزي الشخصية، وبات الأمل بالوصول الى صفاء يحدوني اكثر من اي وقت وخلال 25 عاما منذ غيابها في خريف 1978، ولا ادري من اين جاء يقيني بالعثور عليها، اتراه الحديث المتواتر عن عودة عراقيين كثر الى البلاد بعد غروب صدام؟ ولكن وإن كانت من بين عائدين، كيف سأعرفها؟ وكيف سأصل اليها؟ هل اسأل " الرفاق القدامى"؟ هل اتصل برقم هاتفها الذي مازلت اتذكره جيدا؟ ام انها هي التي ستطرق بابي في الصحيفة التي اصدرتها في بغداد على افتراض انها ستسمع اسمي أو تلمحني معلقا في احدى القنوات التلفزيونية، لم أفعل وهي لم تفعل، غير انني وفي نيسان الذي عدت فيه الى العراق متوهما خروجي من البئر اياها، عثرت على صفاء ذات صباح بغدادي، وهي تغني في ممر يضوع فيه عطر غريب: "بعدك على بالي".




 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM