عن 74 عاماً، رحل الناقد والباحث العراقي الدكتور علي جواد الطاهر، بعد طول انهماك في المعرفة العميقة واساليب البحث الأدبي، واتصال مع الدرس النقدي وعبر اتجاهين، الأول في التراث والثاني في قراءة الأشكال الأدبية المعاصرة. والراحل الدكتور الطاهر مثل الجيل الأول من حركة البحث المعرفي في الثقافة العراقية، وعلى يديه درست اجيال لاحقة من الباحثين والنقاد ونهلت من عمله وتأثرت بصرامته في الفكر البحثي والنقدي وعمليته، أجيال اخرى أيضاً، برز فيها غير ناقد وباحث اكاديمي، حين نعرف أن الراحل قدم لائحة طويلة من الآثار اشتملت على الدراسة النقدية والترجمة وتحقيق المخطوطة التراثية لا بل نقد تلك العملية الاكاديمية المهمة، وعن سعة هذا التأثير نوهت لجنة جائزة سلطان العويس الثقافية لعام 1990 والتي منحته اليه مناصفة مع الناقد والمترجم والروائي الراحل جبرا ابراهيم جبرا حيث اوردت ما يلي: "وأما علي جواد الطاهر فإنه يتميز بدراساته الأدبية على المستوى الأكاديمي، وهي دراسات تتصف بالحرص الشديد على الاناة في الحكم، والدقة في النظر الى الجزئيات من أجل بناء كلي متكامل، والجمع المتنوع بين دراسات تهتم بالتراث وأخرى تهتم بالاتجاهات الأدبية المعاصرة، مثل كتابه "مقدمة في النقد الأدبي ودراسته" "عن الشعر الحر والتراث" وهو فيها جميعاً ملتزم بالمنهج العلمي، مؤمن بجداوه الكبيرة في نقل المعرفة المنظمة، أن مؤلفات علي جواد الطاهر تنقل لقرائها شغفاً صادقاً بالتجويد في العبارة والفكرة والبناء، واخلاصاً كلياً لروح العلم وموضوعية البحث النقدي". والدكتور علي جواد الطاهر، ولد في مدينة الحلة "بابل" 1922، في بيت ورث المعرفة وعلوم اللغة والدين، ودرس فيها حتى الثانوية العامة، وحصل على ليسانس التربية عام 1945، من دار المعلمين العالية وليسانس كلية الأداب عام 1948/ مارس التدريس في المدارس الثانوية في الحلة ثم درس في دار المعلمين العلمية - كلية الأداب - جامعة بغداد، وفي جامعة الملك سعود - الرياض - ونشر اعماله في اغلب المجلات الفصلية والثقافية الرصينة العربية، كما لم يتردد على النشر بانتظام في الصحف، وبما يخلخل فكرة تعارض الرصانة الاكاديمية مع النشر في الصحافة اليومية والاسبوعية. وفي منهجه النقدي، لم يقيد نفسه، بمنهج معين من المناهج دون ان ينكر على المناهج ما اضافته للنقد الأدبي، ولكنه يرى النص الأدبي أعمق وأبعد وأوسع من أن يحد بمنهج او منهجين، وأن النصوص نفسها من التنوع والاختلاف ما يتطلب النظر من زوايا كثيرة متعددة، وان لا ينظر اليها كلها على أنها نسق واحد. ويزيد الراحل على هذا توضيحاً اذ ينوه: "لابد من ان يكون للناقد شخصيته بدءاً بالموهبة الخاصة بمهمته والتذوق والدربة والتحليل والتركيب، ويستحسن - ويجب احياناً - أن يكون للناقد اسلوبه الذي يتبنى به تجربة (الشاعر) او (نص الشاعر) ليعيد عرضها - منطلقاً منها موضوعياً - بشيء من الطراوة ليزيد من سبيل توصيلها وليمتّع القارئ بقدر ما يفيده - وهذا هو فهمه - او مفهومه لمصطلح النقد ابداع على الابداع".
علي جواد الطاهر: ابو النقد الادبي في العراق
وهو في الدراسة الادبية كما هو في النقد الادبي لدى الوقفة عند النص، ويسلك - فيما عدا ذلك - الخطوات العلمية التي استقر عليها البحث عالمياً بدءاً باختباره والخطة والمصادر، مع فسح مجال خاص لشخصية الباحث ورعاية خاصة للغة البحث، مقللاً قدر الأمكان من الجفاف في حدود البقاء موضوعياً، وله في ذلك كتاب بعنوان "منهج البحث الأدبي" لقي تقديراَ في الجامعات العربية وأعيد طبعه تسع مرات، وضمن هذا الدأب في البحث العلمي، كان الراحل يختار طالباً واحداَ لمرحلة الدكتوراه وطالبين لمرحلة الماجستير فقط بغية التفرغ الكامل لهم وبناء شخصيتهم البحثية والمعرفية على مهل وعناية كاملة ودربة، وظل هذا الأسلوب ملازماً له حتى في آخر أيامه التي قضاها يغالب مرضه العضال. الدكتور الطاهر، كان (مقالياً) بارزاً أيضاً وكانت كتبه التي جمع فيها مقالاته الكثيرة والتي ضمت رؤاه النقدية في الرواية والقصة القصيرة والمسرح، اضافة الى استذكاراته عن الشخصيات القائدة في الفكر والمعرفة والتي خبرها وتتلمذ عليها، كانت تبرز فن المقالة المحكم والذي طبعه الطاهر ببصماته الخاصة، وضمن فنها، كانت مقالاته التي تتحاور أو تناقش او تختلف مع كتاب ونقاد من شتى المناهج وأساليب التفكير تحمل قوة نسيجها الفكري والبنائي لتظل مؤثرة وأن تجاوزتها الفترة الزمنية التي انتجتها ومؤثرات تلك الفترة الظرفية (مراجعة كتاب أو مناقشة مقال وفكرة). رحل الدكتور الطاهر في فترة عصيبة تعيشها بلاده وثقافتها، لينضم وهو البارز الى قائمة طويلة من مبدعي هذه الثقافة وهم يعانون العزلة وافتقاد فضيلة الاتصال التي باتت تشكل جوهر العملية الثقافية والانتاج الفكري، غير أن ما تركه من علامات مؤثرة في النقد والبحث الاكاديمي والمراجعات التراثية المنهجية، ليظل يذكر بحضوره رغم الغياب الفاجع ورغم الاضطهاد الفكري متعدد الاساليب والاشكال الذي تمارسه سلطات النظام الارهابي ومنه فرض اشكال التعتيم الاعلامي على اي مبدع عراقي رفض الانضمام الى زمرة المطبلين والجهلة، كما هو الحال مع مبدعنا الكبير الراحل علي جواد الطاهر.
*نشرت في الملحق الثقافي لصحيفة "الرأي" الاردنية بعد ايام على رحيل الطاهر 1997
|