العراقيون في مشهد اليوم الاول لـ "أم الكوارث": بغداد لم تمت وإن كانت النيران تعلي شواهد دمارها عمّان - علي عبد الامير مع حلول الخامس عشر من كانون الثاني (يناير) 1991 وهو الموعد النهائي لانسحاب القوات العراقية من الكويت والاّ فانها ستواجه القوة المسلحة لاخراجها، أنقسم العراقيون بين متأكد من ضربة قاصمة مقبلة وبين متردد يعلل النفس بأمال "الفرصة الأخيرة" التي تبخرت مع فشل اجتماع وزير الخارجية الاميركي جيمس بيكر ونظيره العراقي طارق عزيز في جنيف بعدما "تسربت" الى الشارع اخبار عن "صفقة" بين الطرفين سيتم الاتفاق بشأنها في الاجتماع. وحال الانقسام بددتها في المواقع العسكرية والمدن والمواقع الصناعية والمنشآت المدنية اولى الصواريخ التي اطلقت على العراق من على بعد، وأولى الموجات من الطائرات المغيرة، ولتبدأ "أم المعارك" بحسب التعبير الرسمي العراقي، و "عاصفة الصحراء" بحسب التحالف الدولي الذي ضم جيوشاَ من 33 دولة لاخراج القوات العراقية من الكويت. أهل بغداد استشعروا الخطر مبكراَ حتى ان الغروب الأخير للعاصمة العراقية قبيل فجر السابع عشر من كانون الثاني (يناير) خطف أنفاس المدينة التي بدت شوارعها مكفهرة، باردة ومهجورة كأن الناس عرفوا بالاوامر التي صدرت لقيادة القوات المشتركة ببدء العمليات عبر قصف جوي لا يبقي ولا يذر. كثيرون هجروا بغداد الى المدن العراقية المجاورة وحتى البعيدة بحثاَ عن أمان هناك لا يتوفر في العاصمة التي تضم "مواقع السيادة ورموزها"، وكان الصباح الاول للحرب كشف عن طوابير أخرى من السيارات ثقلت بالاشخاص والاغطية والمعدات اللازمة وهي تودع بغداد التي انطوت مجروحة دون اشارة من الاذاعة الرسمية حول ما يحدث، حتى جاء صوت الرئيس صدام حسين وكأنه قادم من قبو أو ملجأ ليعلن "لقد غدر الغادرون" وكأن هناك طرفاَ وعده بعدم ضرب العراق ولينهي خطابه القصير "يا محلى النصر بعون الله"!! الطاقة الكهربائية والاتصالات الهاتفية ظلتا على حالهما حتى ساعات، ولتغرق بعدها البلاد في عزلة ما انفكت حتى الان تلقي بظلالها لاسيما ان الضربات استهدفت كل ما يمكن ان يصب في خدمة المجهود الحربي العراقي، وحين نعرف ان نهجاَ ضخماَ كان انجز لـ"عسكرة المجتمع" فهذا يعني ان الضربات اطاحت بالبنى الاساسية للبلاد: الجسور، الكهرباء، المصانع، مصافي النفط، الطرق السريعة وغيرها. المطارات والقواعد الجوية كانت هدفاَ لضربات مكثفة بالصواريخ والطائرات، وبحسب الارقام الرسمية فان 600 طائرة شنت في الليلة الاولى للعمليات ألفي غارة، وسقط على العراق في اليوم الاول عشرون ألف طن من المتفجرات. وفي حين كان العالم يشاهد ويسمع ما يجري على ارض العراق المجروحة كانت وسائل الاعلام العراقية تكتفي الى منتصف ظهيرة اليوم الأول بقصائد تثير الحماسة وببيان من وزارة الدفاع يدعو الجنود الاحتياط للالتحاق بدوائر تجنيدهم. من كانوا في القوات المسلحة وبالذات في محاور عمليات الكويت ظنوا بعد "الهجمات الاعلامية" التي لم تقل وطأة عن الهجمات الجوية و الصاروخية، ان البلاد أصبحت في خبر كان، وان الحياة أصبحت نسياً منسياً، فيما كان أهل بغداد والمدن العراقية يتساءلون: اذا كانت المدن تلقت مثل هذه الضربات فبالتأكيد تلقى الجيش اضعافاَ مضاعفة وهو ما يعني موتاً مؤكداً للاخوة والاحبة والاباء والابناء. وسائل الدفاع الجوي ومنظومات الرادار وبطاريات الصواريخ المضادة للطائرات وحتى المدافع البدائية كانت هدفاً لضربات الصواريخ الموجهة من الطائرات والتي اخرجت الدفاع الجوي من المعركة في اليوم الاول، ضابط في "كتيبة الانذار والسيطرة" المكلفة مراقبة الاجواء الجنوبية في الكويت والبصرة وصولاً الى الحدود السعودية كتب في يومياته وعن اللحظات الأخيرة التي سبقت هبوب العاصفة: "انه العد التنازلي لموتنا... بالأمس انتهت المهلة التي حددتها الامم المتحدة لانسحاب العراق من الكويت. ومنذ يوم أمس يحق لقوات التحالف استخدام القوة لتحقيق ذلك.. هدوء بارد يحط على كل شيء. ضباط وحدتنا نزلوا الى الملاجئ تحت الارض. بعضهم يقهقه ولكن ثمة خوف يتملكه ويؤكد: لاحرب!! فيما اسحب خطواتي خارجاَ وسيناريو الموت المثير يكاد يرتسم في رأسي. اليوم قررت البدء في كتابة يوميات، محاولة فعل شيء في مشهد ذاهب الى اللاشيء. قبلها بدأت في كتابة رسائل الى اصدقاء لي في بغداد. رسائل قد لاتصل غير انني اودعتها عند أحد الجنود وارسلت به الى موقع خلفي لوحدتنا، واخبرته ان يذهب بها الى حيث العنوان، ساعة ان يسمع موتي أو فقداني.
لم تصلنا الصحف منذ ايام - هذا جيد تماماَ - لانني تخلصت من عبء متابعة خطابها الرديء، غير ان العنصر الفاعل في ذلك الخطاب والذي يوجهه الرئيس مازال حاضراً ومؤثراً عبر تعليقات الاذاعة والتلفزة. خطاب ضمانات النصر. وخطاب يصور المعركة على انها لقاء جمعين: جمع الأخيار- هؤلاء نحن طبعاَ - وجمع الاشرار!! لغة تذكرك بعصور الفتوحات والفروسية المنقرضة، فيما الآخر خطط لضربنا على لوحة ازرار معقدة وصواريخ التحكم عن بعد. اعلامنا يردد منذ يومين ما قاله الرئيس: "لا عليكم، هؤلاء عبيد الكومبيوتر وأذلاء التكنولوجيا. الرعاة سيهزمون لا بل سيسقطون طائرة الشبح حيث سيذرون الرمل على عيون الطيارين"!! غروب بارد وأوامر تؤكد على تقنين استخدام الوقود، وتخزين اكبر كمية منه عبر وسائل بدائية. غروب بدائي. أفق صحراوي يهجع. اصوات السيارات العسكرية المسرعة في الطرق الجانبية من حولنا هي الاعلى في هذا السكون. جندي ينزل مسرعاً من رابية قريبة متوجهاً نحو ملجأ آمر وحدتنا، اسأله: "ماالذي يركضك هكذا؟ التشويش، أجهزة الرادار توقفت وظلتّ مجساتها تدور دون اي رسمة على الشاشة". النهار الاول للعراقيين بعد ليل أحمر من الصواريخ والقذائف، نهار اكتشاف انهم لم يموتوا جميعاَ وان بغداد لمن ظل فيها ما زالت موجودة ومحتفظة بعلاماتها وإن كان النيران تشتعل في غير مكان منها، فيما كان الرئيس يتنقل في سيارة عادية بين أحياء بغداد القديمة، وهناك من يؤكد ان "شبيهه" هو الذي كان يتنقل بين الناس وإن كان المرافق "الاصلي" عبد حمود قد ظهر معه. بدأت الطائرات العراقية بالهروب الى ايران. واذا كان الطيارون عرفوا الاجواء الايرانية في الحرب ويحملون لها القذائف والصواريخ فهم هذه المرة جاءوا اليها هرباً من مواجهة غير متكافئة مع موجات من طائرات الحلفاء. في الليل الاول بعد فجر العاصفة بدأ العراقيون التكيف مع الظلام، وحضرت وسائل الاضاءة البدائية، وبدأت تجارة الشموع والفوانيس النفطية وابتكار وسائل اخرى اقل تكلفة ومن المقتنيات المنزلية، فيما ستفتح الاسواق في عناد ظاهر مع ايقاع الموت الزاحف على كل شيء. وبدأ العراقيون في منازلهم عادة النوم مجتمعين في غرفة واحدة: "نموت أو نعيش معاً"، ولتبدأ لاحقاً خطوات التكيف مع القصف، وتتعطل المدارس والجامعات والدوائر الحكومية فيما الجيش الشعبي (ميليشيات الحزب الحاكم) يسيطر على المدن وتترقب عيون المخابرات حركة الناس في المدن. الاطفال والمراهقون والنسوة ظلوا يقفزون عن الارض مع كل مرة تهتز فيها اثر ضربة صاروخ أو غارة جوية، فيما اغلب الرجال اعتادوا ذلك من خبرة طويلة في التعامل مع تأثيرات القصف خلال سنوات الحرب العراقية الايرانية. ومع 42 يوماً من القصف الجوي والصواريخ (141 الف و974 طناً من المتفجرات والقنابل) عاشها صغار واطفال وصبيان، ستتحول لاحقاً الى بواعث نفسية عند جيل شاب اليوم، جيل لاتخفى نوازعه العنيفة ولا استجاباته التي توفر مجالاً خصباً للدراسات النفسية، جيل عنت له أوقات الظلام والقصف العنيف رغبة الآخرين بافنائه، بل أجيال باتت على يقين اليوم من انها عوقبت بوحشية على جريمة لم ترتكبها فيما "بطل" الجريمة أفلت دائماً من العقاب!!
*نشرت في "الحياة" العام 2001 (الذكرى العاشرة لعاصفة الصحراء).
|