مقالات  



مقهى العاصمة .. مكان آخر يغيب من حولنا

تاريخ النشر       20/10/2009 06:00 AM


لأنهم سادة الحنين، والذين يجدون في الامكنة القديمة، بعضا من حميمية بدت تفتقدها حياتنا المعاصرة،  لذا كان طبيعيا ان نجد اكبر تجمع للمثقفين في عمّان – خارج انتظامهم المؤسساتي والرسمي – وهو يلتئم في مقهى عتيق، كل شيء فيه يوحي بذلك، غير انه لا يشعر الداخل اليه بعنصر الاغتراب عنه فليس هناك ثنائية حادة اسمها ( قديم – جديد)، فالدعة التي تطوف على فضائه، وزواره شبه الدائمين أعطوه ألفة غير عادية. شرفات صغيرة تطلع من كتف المقهى، كأنها براعم من جذع شجرة عتيقة، فتوحي بإنتماء حقيقي للتجدد والتواصل، الأذرع تتحرك وهي تطوي أو تقلب الصحف، ثمة توزعات لأشخاص يكتبون رسائل أو ملاحظات أو حتى مسودات أعمال أدبية او مقالات صحفية، هذه التشكيلات التي تأخذ صورا أخرى بعد الظهر فتنشط المجموعات في أشكال لهوها الخاصة: فثمة "الشدّة" وهي سيدة الموقف هنا، ثم "النرد"، فالشطرنج أخيرا.


مشهد لوسط مدينة عمان (كاميرا علي عبد الامير)

الاوقات تأتي بزبائن محددين، فروّاد المكان بعد الظهر حتى العصر، هم ليسوا رواد الضحى والظهيرة، ورواد العصر حتى المساء ليسوا بهؤلاء أو اولئك، فرسمي ابو علي ومحمد لافي، كانا يفضلان التواجد عند الموائد القريبة من النوافذ، فيما محمد خروب يختار وسط المقهى قبل ان ينتقل الى احدى الشرفات، وغالبا ما تكون تلك المطلة على الممر الضيق الذي يبدأ منه السلّم الصاعد الى المقهى، وهو ينتظر إنضمام مؤنس الرزاز إليه لتتكون بؤرة لقاء سينضم اليها آخرون: أدباء من عمّان وآخرون يزورون عمّان من أمكنة اخرى,، فغالبا ما سيكون هناك هاشم غرايبة،الذي ستجده منغمسا في احاديث ذلك اللقاء لو صادف ان تواجد في عمّان قبل ان يتحسس الوقت الذي يجده مناسبا للعودة الى اربد، فيما يطل على المجموعة كاتب هذه السطور ليثني على الرزاز في فكرته لعموده الصحفي ذلك اليوم، وهي دائما ما تكون في تعنيف فكرة الديكتاتورية والغاء الآخر، وتقليل فسحة ابداء الرأي المخالف، وقلة الحوار في حياتنا لا الثقافية حسب بل مجملها.

مجموعة اخرى من مثقفي عمّان الشبان هي ملامح نقهى العاصمة، فثمة غازي الذيبة ، جهاد هديب، أحمد النسور، عماد غانم، وصاحب الافكار الطيّارة والحيوية الفائقة مهيب البرغوثي والذي ينتقل ما بين مجموعات المثقفين، فلا يتردد في إبداء رأي يخصه عند هذه المجموعة، ليذهب الى اخرى ويبدي النصح في أحسن تصرف مناسب في لعبة" الشدة".
وفي سفراته الناردة الى عمّان كان الشاعر يوسف ابو لوز يجد في مقهى العاصمة محطا معقولا لبعض "توهجاته" النهارية، مصطحبا على الاغلب الشاعر عمر شبانة، والذي يجد في مرافقة الخشن الطباع والصعلوك الابدي الشاعر جان دمو، مسرة خاصة، فيما كان الأخير يوزع "محبته" على المثقفين العراقيين الذين وجدوا في عمّان بعض فسحة خارج انتظام العزلة في بلادهم، والذين وجدوا في مقهى العاصمة، فسحة ممكنة للقاء والحوار، وتلك "المحبة" غالبا ما تأخذ شكل شتائم خاصة من قاموس جان دمو، يتقبلها بمسرة القاص علي السوداني، فيما الناقد التشكيلي كفاح الحبيب والناقد المسرحي عواد يتقبلانها على مضض، فمن يعرف جان دمو يتقبل منه كل شيء، فهو مثال حي دال على عمق الازمة التي عاشها ويعيشها المثقف العراقي، الذي وقع ضحية القسوة والعنف في حال أراد ان يعبِر عن وجدانه بطريقة شخصية خارج لغة الانتظام الاعلامي الرسمي.
 تبادل حميم بين المثقفين للنصوص الجديدة، والمجلات والكتب ونقاش في المشاريع الشخصية، وفي شؤون الحياة إذ تذهب دائما في اشكال اغترابها لا سيما ان المكان يطل على بؤرة صاخبة اسفله، فالمكان يطل على "وسط البلد" الزاخر بشتى الوان الضجيج و الصخب والعنف ايضا، هذا المكان الذي يؤمه مثقفون، كالناقد السينمائي ناجح حسن دائم التبرم والجزع، على الرغم من إنهماكه في نشاط غني بالالوان وشتى عناصر الجمال – ،كذلك الشاعر عثمان حسن الذي يواصل التحديق ساهما في "خرائب" صغيرة ينقلها بمهارة لغوية الى نصوصه،فالمكان الذي يتشكل بحركة النادل (المعلم ابو محمد) والذي يغفو احيانا عند حافة احدى الموائد خاصة في الظهيرة،وكذلك العامل المصري(صبري) المعروف بشروده ونسيانه تنفيذ الطلبات المنهمرة عليه، والتي يقابلها باهمال يوزعه بطريقة عادلة على الجميع.

هذا المكان وبحميمية الفضاء الذي يتشكل فيه، الوجوه المتطلعة العيون، الايدي التي توميء وتشير وتتحرك اثناء الحديث او القراءة والكتابة، المكان-المواعيد، المكان- الاحتمالات، المكان الذي غادَرَنا منه اصدقاء وحضر اليه آخرون، كي يرحلوا الى امكنة بعيدة، أوصد بابه الضيقة الوحيدة، معلنا في آخر يوم جمعة جمعنا فيه، انه سيتهدم ! فالعمارة التي تضم المقهى، صدرت الموافقة على هدمها لبناء اخرى حديثة غيرها !
انه مكان آخر يتهدم حولنا ويغيب حاملا معه ارواحنا وهي تتبدد وتغيب.


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM