زياد الرحباني والرؤية السوسيولوجية للموسيقى

تاريخ النشر       15/08/2011 06:00 AM


علي عبد الامير
قدم الموسيقي البارز زياد الرحباني درساَ جديراَ بالتمعن في جوانبه ومضمونه، فهو وعبر حوار مطوّل ضمن برنامج تلفزيوني "حوار العمر"، وتحديدا في حلقته الاخيرة، راح يقابل مفهومه النقدي الذي رسخه موسيقياَ وغنائياَ، بقراءات راجع خلالها المستجدات السياسية والاجتماعية اللبنانية، مما كشف وعياَ سوسيولوجياَ عالياَ، يفتح باب السجال على مصراعيه: هل للفنان دور اجتماعي، أم ان عليه الوقوف عند التخوم التي تقترحها اعماله والاكتفاء بالتطلع الى المشهد الحياتي المتحرك ؟

زياد الرحباني:نقد قوي للنخبويين من أهل الفن والثقافة، وسخرية من السياسيين
 
زياد الرحباني كشف عن ميل للجانب الاول من السؤال فهو نظر الى المستجدات التي شهدها لبنان مؤخراَ، مؤكداَ مرجعياته "الماركسية"، ولكنها ليست المنطلقة من النظرية، وانما من الوقائع والدلالات التي تقدمها الحركة الاجتماعية، انه مع المقهورين، ولكنه ليس مع الفوضى، انه مع "ديموقراطية اخلاقية" اكثر مما هو مع "ديموقراطية منبهرة بالشعار والنوايا"، انه مع الامل رغم سوداوية مشهد استغرق في "حرب أهلية"طويلة، فيما نذرها تطل بين آونة وآخرى مجدداَ، انه مع استقراء نتائج سنوات الحرب ودلالاتها قبل النظر الى اجراءات الحكومة اللبنانية على انها "اجراءات قمعية"، فبدأ مع لبس في الفهم والتأويل وكأنه مع حركة اجتماعية "منضبطة" بل اكثر من هذا، فبدأ وكأنه "يبرر الاعتقالات" ولكنه حقاَ كان ضد هذا التأويل مشدداَ "انا مع الامن الاجتماعي " .
هل هذا يعني ان المفهوم النقدي الاجتماعي لزياد صار اكثر "عقلانية"؟ يبدو الجواب بنعم أقرب الى الحقيقة، فهو يوم تداخل في صفوف المتحاربين، وانتقل من منطقة ( انطلياس ) المصنفة على انها "كتائبية" الى ( بيروت الغربية ) المصنفة على "الثوريين" اللبنانيين والفلسطينيين، كان مأخوذاَ بافكار "صوت الشعب" و"انتصار الجماهير"، ولكنه بعد فترة وبعد ان اكتشف "انتهازية" الجميع وما تبعثه افكار الانتماء المتطرفة من مرارات وتعطيل للعقل، فراح يشتغل على الذات المراقبة للمشهد بعمق، الذات التي تقرأ العالم انطلاقاَ من صوت داخلي، ليس منقطعاَ عن الخارج، ولكنه أيضاَ ليس مأخوذاَ بالانتظام الجماعي للافكار والآمال .
فنياَ انعكس هذا المعنى في اسطوانة "أنا مش كافر" ( 1985 )، فثمة سخرية مريرة من الوقائع الاقتصادية وحال الضنك (نستذكر هنا اغنية شو عدا ما بدا).
 
 
 
وثمة سخرية أيضاَ من "اعلانات الوطنية وشعاراتها"، وثمة الأمل أيضاَ بالمقاومة الطالعة من عمق الارض المدماة ( الجنوب اللبناني )، حد ان زياد كان يستشرف النهاية الطبيعية للاحتلال الاسرائيلي فيؤكد في اغنية "تحية للمقاومة الوطنية" ان من يدحر الاحتلال ليس ركام الشعارات ولا المزايدات الوطنية، وانما عمل حقيقي يبتكره ابناء الارض المحتلة لا غيرهم من الذين يلعبون ادوار الاوصياء .
فيما خص "مزارع شبعا" و "قرية الغجر" الآن يقول زياد انهما "جزء من وطن، ولا يجوز اختصار مصير الوطن كله بهما". هنا "عقلانية" و "وعي تكتيكي"، فقضية المنطقتين الحدوديتين التي تعتبرهما "المقاومة الاسلامية" في الجنوب اللبناني محتلتين، يعتبرهما زياد "فخاَ" يمكن ان يسقط فيه الوطن كله اذا ما تصاعد "الحماس الوطني" حداَ يدعو الى مواجهة غير محسوبة العواقب.
ومثل هذا المعنى الذي يشير اليها زياد، قريب الى فكرته عن تحقيق الاهداف الاجتماعية و "التقدمية" عبر "الامن الاجتماعي"، فمع بناء اجتماعي متضامن ومنسجم مع نفسه ويناغم بين التيارات المتعددة دينياَ وقومياَ وطائفياَ يمكن ترتيب عناصر مواجهة رابحة مع الاحتلال، ودون ذلك تصبح المواجهة "فئوية" وليست " مواجهة وطنية" .
ورؤية كهذه، كانت محسوبة في اسطوانته "بما أنو"( 1996 )، التي بثها زياد الرحباني في جو داخلي ليس خافياَ حذره من " كابوسية" انعكست في الكلام والموسيقى في جو انتقادي ساخر. نتذكر في هذا الصدد "تلفن عياش" الاغنية التي صاغها زياد في سياق شعبي نغمياَ ولكنه يضج بالنقد القوي للمفاهيم الاجتماعية الثابتة والمسلم بها .
 


كلام زياد "المختلف" عن "الانتظام الجماعي" في الفكر والسياسة، يبدو منسجماَ مع اختياره الموسيقى على حساب الكلام في تجاربه الغنائية المتأخرة، أكانت التي قدمها بنفسه أو التي قدمتها فيروز بصوتها المتأسي . هنا في هذه التجارب صياغة موسيقية رفيعة على حساب كلام يبدو مستغرقاَ في عاديته، فالكلام مبذول وفي متناول الجميع ، بينما النغم الموسيقي الآلي يحتاج "هدوءاَ" شخصياَ وتناغماَ بين الذات والعالم كي يتمكن المتلقي من الوصول اليه .
زياد الذي "خلخل" صورة فيروز "جارة القمر"، وانزلها من علو رومانسي محلق الى الواقع المتعثر في رحلة الآمال، هو ذاته الذي يطلق افكاراَ "خلخلت" الصورة الثابتة عنه بصفته "يساريا"، ومنتمياَ "لنبض الجماهير"، فهو مع العقلانية، مع ان يكون الانسان منسجماَ مع ذاته، لا يستعير صوت غيره ولا ملامح غيره، وانه لن يكون قادراَ على التغيير مع الفوضى والتطرف، بل ان أمناَ اجتماعياَ وتطوراَ هادئاَ هو الذي يجعل المأخوذ بالافكار التغييرية فاعلاَ وايجابياَ، والا فأن الفوضى اكبر منه وستسقطه في حبائلها .
هذا درس في الوعي السوسيولوجي للفنان، يقدمه زياد الرحباني، درس جدير بالتوقف عنده والتمعن فيه. هو نقد قوي ومؤثر لاولئك النخبويين من أهل الفن والثقافة والادب، مثلما هو نقد أكثر جرأة وقوة لاولئك الغلوائيين الذين لا يترددوا في هدم كل شيء من اجل اثبات صحة افكارهم .

*نشرت في صحيفة "الرأي" الاردنية العام 1998.



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM