علي عبد الامير مع ان محبي المطربة الكبيرة السيدة فيروز سيشعرون بصدمة اضافية من الجو " المختلف" و "الغريب" في اغنيات اسطوانتها الجديدة "ولا كيف" التي صاغ معظم اغنياتها زياد الرحباني، الاّ انهم سيتوفرون على روح انسانية عميقة المشاعر والمعاني، تلك التي تبثها فيروز بين طائفة عريضة من القضايا والافكار والمفاهيم ، فهي قدر ارتباطها العميق والروحي بالمقدس والديني كما في ترنيمة " يامريم"، تظهر ارتباطاَ بالمعاني التي تبثها الحياة اليومية، بل قاع تلك الحياة ان شئت عبر اغنية "صبحي الجيز" التي يحي فيها زياد ذكرى رفيقه الشيوعي الذي كان يعمل كناساَ وقتل اثناء الحرب الاهلية اللبنانية . ولو عرفنا ان هذين العملين "يامريم" و "صبحي الجيز" ليسا جديدين، فالاولى من الترانيم الكنيسة التي تفضل فيروز اداءها في مناسبات دينية، والثانية هي من ايام عمل زياد في اذاعة "صوت الشعب" التابعة للحزب الشيوعي اللبناني، فأننا ازاء روح تجديدية يبثها زياد في ثنايا أمه، فهي لم تتوقف عند القبول بألحانه المغايرة للطقس الفيروزي المعروف بحسب ملامح عاصي – منصور الرحباني، وانما باتت تستوعب مغامرة تجديد الاعمال الكلاسيكية واعادة تقديمها وفق صياغة موسيقية جديدة ، كما في ترنيمة "يا مريم" التي صارت بحكم المزاج التجديدي لها اغنية "دنيوية" بحكم اضفاء ميلودي غنائي شعبي عليها.
غلاف اسطوانة "ولا كيف": فيروز برغم سنوات النضوج، شابة من وقتنا المأزوم
والروح التجديدية التي تظهر عبرها فيروز في اسطوانتها الاخيرة، لم تكن في حدود القالب الموسيقي الذي قارب أجواء الجاز بالموسيقى اللاتينية التي تمر هذه السنوات بأجمل فتراتها عالمياَ، وبخاصة في اغنية "شو بخاف"، وانما ذهبت الى فكرة مغايرة حتى في الرؤية الى الحب، الى العلاقة بين الرجل والمرأة، الى الحياة، الى المكونات الاساسية للفكرة الانسانية، فثمة الاضطراب القريب من ايقاع أيامنا، ثم الكثير من الضجر، ثم الخذلان، وثمة الاحساس بالجلد والصبر والمثابرة أيضاَ . في اغنية "صباح ومسا" التي كانت فيروز غنتها في "مهرجان بيت الدين" قبل عامين، أحساس غامر بالدفء الذي يورثه الوفاء، وصوت فيروز فياض بمشاعره المتأسية والولهانة أيضاَ، اللحن هادئ الايقاع، والكلام نقر على زجاج العزلة والانتظار، نقر خفيف، كأنه دعوة لاكتشاف أعمق ما في الانسان من قدرة على جعل الحياة مزيجاَ من السعادة والهدوء: قدرة على الحب . وعلى هذا المنوال من اغنيات الحب الهادئة، تأتي فيروز ناعمة الحضور ومتوهجة بالمشاعر في "شو بخاف" و "انا فزعانة" وكلاهما اغنيتان تمزجان رقة الحب، باضطراب حياتنا اليوم "شو بحس الليلة صعبة / بسمعها ضربة ضربة / بيخطر لي أخذ حبة / تا أقدر نام" . واذا كان العشاق المنسجمون مع ذواتهم قلة في أيامنا، وقليلة الاغنيات التي تشبههم، فأن فيروز تمنحهم فرصة للالتقاء بلحن يشبههم، يزيد رقة مشاعرهم على الرغم من ان الحياة من حولهم تزداد قبحاَ، هو لحن اغنية "بيذكر بالخريف" الذي اعدّه زياد الرحباني عن عمل بعنوان "اوراق" الذي غناه الفرنسي ايف مونتان، وبدأه الرحباني المشاكس بتنويعات على البيانو يلعبها بمهارة، ليطوف الكلام لاعبا على تنويعات المشاعر : "القصة مش طقس يا حبيبي هاي قصة ماضي كان عنيف بس هلق ما بتذكرّ شكل وجكّ بس بذكر / قديش كان أليف"
اللحن أمتزج فيه أيقاع لاتيني متدفق مع مزاج حر من الجاز، اكان ذلك في الضربات الحرة على مفاتيح البيانو، أو النقر المبتهج على أوتار الكونترباص، كذلك الانسام الدافئة التي يبثها العازفون في آلات النحاس الساكسفون والترومبيت .
والمفارقة التي تتركها اغنية "بيذكر بالخريف" عبر مفردتي "عنيف" و "أليف" ومعنيهما، تفتح المجال الى مفارقة أكبر، بل الى اجواء تهكم وسخرية في اغنية "لا والله "، المأخوذة موسيقاها عن لحن لاتيني موروث " لا بامبا"، وفيها غنت فيروز ساخرة من قدرة الانسان على احتمال زيف عصره وثقل ضغوطاته وعناءاته، قدرته على ان يكون محباَ فيما هو يجوب عواصم الخليج ومدنه من اجل توفير لقمة عيش مستحيلة : "حجرة حجرة يا حبيبي منقدر نبني بيت زرت الشارقة وقطر ومسقط جدة والكويت ورجعت منفضّ ولا قرش مجمع ولا خبيت" وما زاد في اجواء التهكم هذه، الايقاع اللاتيني الراقص (لحن لابامبا) الذي جعل من التراتب الايقاعي السريع، متزامناَ مع نوائب تنزل بسرعة على الانسان بحيث تجعله صغيراَ محبطاَ حتى أمام حبيبته: "ياريت بتعمل شي علناَ كلو على السكيت حاجة تنفخ دخنة بوجّي ولو بتدخن "لايت" كيف طل الورد بشباكي مع إنو ما دقيت يا ريت انت وانا بالبيت" . وضمن اجواء التهكم هذه ذاتها، تأتي اغنية " انشا الله مابو شي" التي توجز مزاجاَ "زيادياَ" صرفاَ، فيها سخرية من الحياة، من الكلام، من الجدوى، بل سخرية من كل شيء : "خبرني عن اخبارو شو أخبارو انشا الله مابو شي كل مرة بصدف جارو وهيدا جارو ما بيفهم شي بيحكيلي خبريات وبيحكي عموميات وبيرم ساعة عالكلمة وما تطلع هي بالذات" هكذا ترسم السيدة فيروز طائفة من المشاعر، في اسطوانتها الجديدة، وهكذا ترسم صورة للفنانة المتجددة دائماَ، بل المغامرة أيضاَ، هي برغم سنوات النضوج، شابة من وقتنا المأزوم، مضطربة، مهجوسة بالحزن والأمل، هي مؤمنة بالله، ومتدينة وتذهب تصلي، ولكنها أيضاَ تغني لكناس شيوعي يموت في الحرب، تغني له المستقبل " السعيد" القادم حتماَ كما هي "حتمية " انتصار المعذبين على الارض، الحتمية التي صنعت موجة افكار هائلة قد تكون انتهت الى ما يشبه الاوهام! هذه هي فنانتنا الكبيرة، تحفر في ثنايانا، وتنقش العذب من المشاعر وتمضي، فيما نجلها المبدع الخلاق زياد، يتوارى كعادته عن المشهد مبقياَ ألحانه تتسيد طرقاتنا الشخصية التي تزداد وحشة يوماَ بعد آخر. *نشرت في ملحق "الرأي الثقافي"
|