نقد أدبي  



سعدي يوسف : عمره منهوب للمنفى "بعيداَ عن السماء الاولى"

ِعلي عبد الامير

تاريخ النشر       14/01/2011 06:00 AM


صورة عن قرب
سعدي يوسف : عمره منهوب للمنفى "بعيداَ عن السماء الاولى"*
ثلثا عمره عاشهما الشاعر سعدي يوسف خارج العراق، واكثر من ثلثي شعر كتبه منفياَ عن وطنه، حتى صار صاحب ديوان " بعيداَ عن السماء الاولى " شاعر المنفى العراقي بأمتياز، تأرجحت فكرة الوطن بين غرف الفنادق، وبين الاقامة في عواصم عربية واخرى غربية ( صارت لندن ملاذه الاخير )، وكلما تعثرت البلاد بحروبها ورعبها وحصاراتها، كلما وجدت الطريق الى قصيدة يوسف بسلاسة قل نظيرها . رقّّت له اللغة، مثلما لم ترّق لشاعر عربي معاصر قبله، والعراق حاضر، آسر، فياض بالاشواق، بالحزن، بالقهر، عميق في شعره، ومنذ أول دواوينه " اغنيات ليست للاخرين" 1955 وحتى آخرها "حياة صريحة" 2001 تناثرت الارض والاشياء، وشهقت اللغة وتناثرت الرؤى ولكن ضمن مركز بلاده، وليست مصادفة ان يكون الناس المبثوثون في اول القصائد من مدار مكاني ( أبو الخصيب في أقصى جنوب العراق ) هو ذاته الذي يشهد حركة الاثر الانساني في اخر القصائد التي كتبها سعدي يوسف المولود عام 1934 في قرية حمدان وسط أكبر غابة للنخيل في العالم تمتد على الضفة الغربية لشط العرب .
عن هجراته بين موسكو ثم دمشق فالكويت، فبيروت، فالجزائر، فدمشق، فبيروت، فقبرص، فبيروت، فدمشق، فعدن، فقبرص، فبلغراد، فتونس، فباريس، فعمّان، فلندن ، يكتب سعدي يوسف المبتلى بالسجن والتحقيق السياسي بعد اول منشور شيوعي كان حمله اليه ابن مدينته الشاعر بدر شاكر السياب أواخر اربعينات القرن الماضي، يكتب عن المنفى: "يتضمن المنفى فكرة الالغاء، إلغاء علاقة الفرد بالسماء والارض والمجتمع، ثمة خط عمودي يصل بين السماء حيث المعبود والأرض حيث الاسلاف في هدأة الموت الطويلة، وثمة خط أفقي ينتظم القرية او البلدة، حيث المنازل والذكرى وملاعب الطفولة. وفي نقطة تقاطع الخطين يقف الفرد. هول المنفى هو في اقتلاع الفرد من نقطة التقاطع هذه، فلا السماء أولى، ولا الاسلاف أسلاف، ولا منازل وذكرى وملاعب طفولة" .


سعدي يوسف:"ايهذا الحنين / ايهذا الانين الذي كنت اسميته وطناَ"

 ورغم المكانة الفنية التي اعلاها يوسف في شعره في وقت كان المدججون بالخطابة والنبرة العليا في قصائدهم، هم سادة الموقف، الا ان تجربته بقيت بعيداَ نوعاَ ما عن الفحص النقدي وعن المراجعة، وقد تكون طريقة تقديمه لنفسه في الحياة وفي الشعر بحسب ما تقول الناقدة العراقية فاطمة المحسن وراء "قلة الالتفات الى قيمة شعره" . وسعدي قانط احياناَ وجزع اخرى وبينهما هو دائماَ صاحب "النبرة الخافتة المبتعد عن خطاب البطولة في لغة الشعر، فلم يكن مبلّغا او رائياَ ولا ممجداَ لإرادات كلية، حتى الوطن لا يظهر لديه الا بأناسه واماكنه اليومية وشؤونه العادية " .
سعدي يوسف ارتبط بالماركسية في وقت مبكر من شبابه، وهاهو قبل أيام يبدي سعادته انه مازال شيوعياَ في نص يستهجن فيه هذا العصر الأخرق الذي صنع من ابن لادن بطلاَ، غير ان ماركسية صاحب "مرثية الألوية الاربعة عشر" ظلت خاصة به، بتلك النبرة المنكسرة التي تنتقي الشخصيات المدحورة من البشر وتوثق الاحداث اليومية الحزينة .
 قصيدة يوسف منسوجة وفق نظام خاص، حتى عرف بأنه "صاحب طريقة " في كتابة الشعر قلّده فيها الكثير من الشعراء العراقيين ثم الفلسطينين بحسب ما ترى الناقدة سلمى الخضراء الجيوسي .
 ولانه ولد في مكان غير عادي لجهة التكوين الطبيعي فيه ( الاشجار والطين والماء ) ولجهة العناء الانساني الخرافي ( الفقر، الجوع والاضطهاد )، لذا كان الدرس الاول في قيمة المكان، وفي معنى التجربة الحياتية واثرها حاضراَ بقوة في شعره "انه يبدأ بالمكان، بتفصيله الدقيق وأحلامه الحقيقية والمتوهمة، ما من مدينة أو قرية أو مطار أو مكان حل به الشاعر، الا وسجّل ما تصادفه عيناه أول مرة" .
من قريته في ابو الخصيب ثم الى البصرة، ثم الى بغداد للدراسة الجامعية، انتقل يوسف لتغيير حياته مع فوز مطولته الاولى "القرصان " عام 1952 بجائزة الشعر في دار المعلمين العالية ( كلية الاداب ) ثم يصدر ديوانه الاول "اغنيات ليست للأخرين" ثم "51 قصيدة" عام 1955، وهي قصائد تصوغ سير وحكايات اناس بسطاء من بلدته ضمن نهج قاده لاحقاَ الى ان يكون هدف السجن ومطاردة الشرطة ثم أخيراَ الرحيل هارباَ الى الكويت في العام 1957 ومنها الى القاهرة .
بعد 14 تموز 1958 يصدر "النجم والرماد" والعنوان يوضح التباس المرحلة فكرياَ واجتماعياَ، وبعد انقلاب 8 شباط 1963 الدموي، يدخل سعدي يوسف السجن ويهرب من العراق في أول انفراج سياسي الى بيروت، ثم الى الجزائر، ويصدر في العام 1965 ديوانه الرابع "قصائد مرئية " ومعظم قصائده كتبت خارج العراق .
 كل قصائد الديوان الخامس "بعيداَ عن السماء الاولى" عام 1970 كتبت في الجزائر، وكلها تقريباَ ممتد الى المكان العراقي، مثلما الحال في ديوان "نهايات الشمال الافريقي" 1972، ومع الديوانيين تطورت فكرة الاغتراب أو المنفى في شعر سعدي، ثم لتكتسب بعد عودته الى بغداد عام 1971 مؤشراَ اضافياَ حين" الاغتراب" في الوطن يعادل " النفي" خارجه .
  لم تحقق قصائد لشاعر عراقي معاصر، حضوراَ مدوياَ كالذي حققته قصائد سعدي يوسف حد أنه ديوانه ( الاول له بعد عودته الى بغداد ) الذي وقع في عنوان "الاخضر بن يوسف ومشاغله" صار مؤشراَ على مرحلة ثقافية وسياسية خطيرة بعد انقلاب 17 تموز 1968 ( التحالف بين البعث الحاكم والشيوعي العراقي الذي ظل في المعارضة منذ تأسيسه عام 1934 ) . قصائد الديوان، صارت بين عشرات الالاف من الشيوعيين الشبان اناشيد حرية لن يعرفها العراق بعد حين وصارت لاحقاَ نبؤات رعبه وحروبه : "ايهذا الحنين / ايهذا الانين الذي كنت اسميته وطناَ / وأدعيت له، واجتزأت حماقاته، واجترأت/ على ما رأيت – انتساباَ له ... / ايها الوطن الاول / اننا نذبل / يدرك الشيب ابناءنا .. / ايها الوطن المقبل" .
لم يدرك الشيب ابن الشاعر ( حيدر ) وحسب، انما من فرط لهاثه وابيه بين هجرات ونأي، مات في الفلبين العام 1997، حيث يعمل وعاد سعدي يوسف بولده ميتاَ ليدفنه في "مقبرة الغرباء" بدمشق التي صارت مقبرة العراقيين الذين يرفض الوطن عودتهم اليه وإن كانوا موتى كما هي حال محمد مهدي الجواهري والبياتي والمئات غيرهم .
وما بين السؤال "ما الذي صنعت بنفسك" الذي تتضمنه قصيدة "تنويعات استوائية" المكتوبة في بغداد عام 1972 وما بين الشهقة التي يرددها " الاخضر بن يوسف" ( المعادل الشعري لسعدي يوسف ) حين يقول : "من لي سواك اذا اغلقت بالعراق النوافذ ؟" من قصيدة ضمن ديوان "الليالي كلها" 1976، كانت ثمة قصائد ضمها ديوان "تحت جدارية فائق حسن"1974 جعلت الشاعر أقرب الى نبض لحظة كانت محكومة بقلق وخوف نادرين، فثمة مشاعر الانتصار في "التحولات التقدمية" كما تقول الوثائق السياسية . ولكن هناك أيضاَ مشاعر الحنق والغضب مما يجري على الارض، فكل شيء كان يضفى عليه لون واحد، يفكر باتجاه واحد، وعلى الناس ان تقول بلسان واحد : " يا بلاد البنادق / ان الحمامات مذبوحة، والجدار الذي قد بنيناه / بيتاَ وغصناَ / ينزّ دماَ اسود ، ويهزّ يداَ مثقلة" .
  وما إن يكون ديواناه "الساعة الاخيرة " 1977 و " قصائد اقل صمتا"1979 قد صدرا يكون سعدي يوسف بدأ هجرة جديدة عن وطنه، وتكون قصائد ديوان "من يعرف الوردة"1981 شاهدة على "مرحلة جزائرية" جديدة ثم ديوان "يوميات الجنوب – يوميات الجنون" 1981 الذي كتب يوسف قصائده اثناء اقامته في اليمن الجنوبي، يوم كانت اليمن مجزأة، وجاءت قصائد ديوان "مريم تأتي" لتكون شاهدة على حصار بيروت من قبل الجيش الاسرائيلي الذي غزا لبنان 1982، حيث كان الشاعر وسط المقاتلين الفلسطينيين واللبنانيين، وما بين اليمن وسوريا وقبرص وتونس تمتد قصائد ديوان "خذ وردة الثلج خذ القيروانية" وفيها يكون صوت الشاعر ازداد تهدجاَ لفرط ما عنى بألفاظ اليأس والالم، ولفرط ما شهق بأمال ظلت محبطة دائماَ .
 سعدي يوسف شاعر غزير، فهو خلال عقد التسعينات أصدر نحو 7 كتب شعرية، وتدل المراجعة لتواريخ كتابته القصائد انه يكتب اكثر من قصيدة في يوم واحد أحياناَ، ولكنها، وهذا ما يسجل للشاعر، تظل قصائد مختلفة، في مؤشر على قدرة توليدية، وعلى فيض من الرؤى وعلى علاقة صافية مع اللغة .
 في العشر سنوات الماضية توزعت اقامة سعدي يوسف بين باريس ودمشق وعمّان قبل ان يقرر قبل عامين الاقامة في لندن ومنها يطلق نداءَ أقرب الى الاستغاثة كأنه يشكو رحلة متعبة فيقول في قصيدة طويلة " حياة صريحة" :
" يا أمي / غطيني بحرير ترابك / بالنور الدافق من عتمة قبرك / غطيني بالفوح / ولون حليبك / ماهذي القرية ، يا أمي ؟ / يا ما طوّفنا في الطرقات / وياما أطللنا من شرفات نسألها عن معنى / لكني لم أعرف يا أمي / الاّ قبل ثلاثة أعوام، ان الدنيا سجن / يسكنه موتى / لم اعرف الا قبل ثلاثة اعوام انك، وحدك، كنت صديقة عمري وحديقة أحلامي ".

*نشرت في الملحق الثقافي لصحيفة "الرأي" الاردنية العام 2001
      


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM