يوسف العاني:كنت أحلم انا بفيلم فيها شجن وموضوعة عراقية وقضية حقيقية
كنت احلم ان اكتب وأمثل افلاماَ قريبة لموجة افلام "الواقعية الجديدة"، وكنت على موقف نقدي مما كانت المحاولات السينمائية الاولى في العراق تنشغل به، وهو اعادة الانماط السائدة والعادية في السينما المصرية، كما كنا ننتظر العراقيين الذين درسوا السينما في الخارج، فوصل عبد الجبار ولي ليصنع فيلم "من المسؤول؟" وكان لي موقف من هذه التجربة، فرغم تشجيعي لها، الا ان المعالجة في القصة ظلت مطابقة للمعالجات المصرية المغرقة في ميلودراميتها .
بعد ذلك وصل كاميران حسني وأصدر "مجلة السينما"، واستطاعت هذه المجلة ان تحبب الناس لهذا الفنان وكان يحلم بأن ينتج فيلماَ، وكنت أحلم انا بفيلم فيها شجن وموضوعة عراقية وقضية حقيقية لننطلق منها صوب احلام وهواجس انسانية مشروعة.
العاني في دور المعلم ضمن فيلم "سعيد أفندي"
وأثناء بحثنا المشترك عن موضوع فيلمنا الموعود الذي أصبح لاحقاَ " سعيد أفندي" أحضر كاميران حسني قصة "شجار" للراحل أدمون صبري والتي تدور حول حياة معلم، في كل مرة يقبض فيها راتبه يسهر سهرة، ولكن بعد هذه المتعة الطافحة بالسعادة يعود الى مهمته جاداَ لينشئ جيلاَ ويعلمه. احببت هذه الشخصية وكتبت سيناريو الفيلم اعتماداَ على هذه القصة .
* وماذا عنك ممثلاَ ومسجلا َ بلمسة الحياة شخصية هذا المعلم في "سعيد أفندي" ؟
- بعد قبول السيناريو اثر مناقشات حادة أحياناَ، قبلت تمثيل شخصية المعلم، وشكلنا لجنة: ابراهيم جلال، جعفر السعدي، المنتج كريم هادي والمخرج كاميران حسني وتعاهدنا على عدم تقديم اي شيء رديء، على الاقل في الفكرة ومحاولتنا في تقديم فن سينمائي نظيف .
بعد عرض الفيلم، أحسست انني بشخصية المعلم فيه، أكمل ملامح فنية كنت قد شكلتها في عملي المسرحي مع اضافة مهمة جداَ، الا وهي "جماهيرية" الشكل الجديد . فالسينما كانت اكثر الاشكال الفنية تأثيراَ في الخمسينيات العراقية، وفيلم "سعيد أفندي" عرض في صالتين بوقت واحد عام 1957 وأضيفت حفلة خاصة ظهراَ، وشاهده الملك والوصي ونوري السعيد، والناس بمختلف مستوياتهم الاجتماعية والفكرية، وأوصلنا من خلاله ما كنا نريد ان نقول: ان السلام بين الناس هو الحل وليس الصراع العنيف.
* ولماذا لم يظهر بعد ذلك فيلم بمستوى "سعيد أفندي" ؟
- حين يستقر البلد يستطيع ان يفرز القضايا الصحيحة والايجابية، وان الظرف الذي أخرج وأنتج فيه "سعيد أفندي" غير موجود الان، فالفنانون الذين اشتركوا في الفيلم قدموا أفضل ما عندهم أولاَ، وثانياَ كان هناك تعاون وألفة وتوق شديد عند الناس للمعرفة. وأستمرت الحال في ظروف مرتبكة فقدمت "أبو هيلة"، ثم سافرت الى بيروت وهناك قدمت عملاَ "وداعاَ يا لبنان" بأخراج حكمت لبيب وعدت الى بغداد ثم عملت في فيلم "المنعطف" للمخرج الراحل جعفر علي .
ملصق فيلم "ابو هيلة" الذي مثل فيه يوسف العاني
* اين تضع "المنعطف" كعلامة في السينما العراقية والعربية ؟
- اعتبره المحطة الثانية لي بعد "سعيد أفندي"، وأجده واحداَ من أفضل الافلام العربية التي انتجت في السبعينات، وفيه مثلت دور الشاعر حسين مردان اعتماداَ على ما كتبه الراحل غائب طعمة فرمان في روايته " خمسة أصوات"، وأحببت الدور، فحسين مردان، الشاعر الوجودي الشفاف لفرط طيبته وانسانيته، كان صديقي ومعرفتي به عميقة، وهذا ما أمدني بقدرة على تجسيد شخصيته، فقد عشنا معاَ تجربة واحدة وغربة واحدة . ودوري في "المنعطف" اعتز به ايما اعتزاز .
العاني مؤديا دور الشاعر حسين مردان في فيلم "المنعطف"
* ماذا عن بقية تجاربك في السينما العراقية والعربية أيضاَ ؟
- شاركت في فيلم "المسألة الكبرى" و "الفارس والجبل" للمخرج العراقي محمد شكري جميل، وعملت في فيلم "اليوم السادس" للمخرج يوسف شاهين، وعملت مع التونسي رضا الباهي في فيلم "السنونو لايموت في القدس" قبل سنوات قليلة، وأديت دور الفلسطيني الطاعت في السن والذي تظل قضيته شابة وحاضرة دائماَ .
* اشرت الى علامتين بارزتين في السينما العراقية هما : "سعيد أفندي" و" المنعطف" والمفارقة انهما من انتاج القطاع الخاص، الا تعتقد ان سيطرة الدولة على العمل الفني افقدته روح الابداع وحرية التفاعل على الاقل لجهة استقلال شكله الفني وربطته قسرياَ بخطاب الدولة الرسمي ؟
- بعد أن تأسست "مصلحة السينما والمسرح"، كنت اول مدير عام لها، وكان الهدف معاونة القطاع الخاص عبر توفير عمليات وتقنيات الطبع والتحميض، وتحولت لاحقاَ الى الانتاج لضعف القطاع الخاص، وبعد فيلم "الحارس" وهو فيلم عراقي مهم وانتجه القطاع الخاص أيضاَ، توقف المنتجون عن المغامرة في صنع افلام جديدة، وتصورت بعض الاطراف التي ادارت السينما العراقية ان انتاج افلام كبيرة ( الانتاج الضخم ) ومن ثم افلام الحرب هو الذي يجب ان تكون عليه السينما العراقية، وبعد ان استقرت الحال على هذا المستوى بدا طبيعيا انسحاب القطاع الخاص من المنافسة، وليس هناك قرار حكومي بمنع القطاع الخاص من العمل في السينما، ناهيك عن تردد اصحاب رأس المال في دخول مغامرة الانتاج السينمائي.
* بعد افلام الحرب التي وثقت رؤية حكومية عراقية لوقائع تلك الحرب توقف الانتاج السينمائي الحكومي ودائماَ بتأثيرات الحصار، وندرة الفيلم الخام جعلت مهتمين بالسينما يستعينون بكاميرات التلفزيون واشرطة الفيديو لانتاج ما عرفته سنوات التسعينات بأفلام "السكرين" ؟
- انتبهت مجموعة من العاملين في شركات الانتاج الفني من القطاع الخاص الى هذه الوسيلة، لتنقل عبر الشاشة ما نقلته بعض الوجوه المخربة الى المسرح. فأصبحت هذه الافلام تمثل مستوى تافهاَ وعادياَ ومذلاَ للانسان العراقي، وأصبح الذاهب لهذه الافلام، كمن يعوض عن الذهاب الى مخيم الغجر أو الملهى الليلي، مما ادى الى اصدار قرار بمنع انتاج مثل هذه الافلام .
* ألا تعتقد ان قرار المنع يحد من روح المبادرة بل وينهيها، فقد أظهر مخرجون شبان افلاماَ ضمن هذه الموجة لا يمكن وصفها بالمتقدمة فنياَ بل هي على الاقل استطاعت ان تنقل صورة حية عن أزمة الانسان العراقي تحت الحصار ؟
- هذا صحيح، فهناك فنانون شبان استطاعوا ان يقدموا حبكة السينما ومشاهدها في افلام السكرين، هؤلاء ومثلهم اعتقد انهم يستحقون التشجيع، وان يوفر لهم مجال أوسع على شاشات التلفزة، عبر مراجعة كاملة تقوم بها الجهة الحكومية ( السينما والمسرح ) وتناقش مرحلتها السابقة واعمالها ودورها وتضع خطة مدروسة للمستقبل آخذة بنظر الاعتبار ماهو متشكل في الواقع، واذا كانت قد شكلت لجنة للمسرح فأن لجنة مشابهة للسينما يمكنها ان تدرس حقائق قائمة ومؤثرة في ذائقة الانسان العراقي دون اللجوء الى حل واحد وهو اغلاق المنافذ.
* وسط لحظة راهنة ، حيث يغادر فنانون عراقيون الى صمت الموت أو برودة أقاليم الهجرة، وتعيش بغداد لحظة قسوة مرة، كيف ستنعكس هذه في عمل أدبي عند يوسف العاني ؟
- بالنسبة لمن يهاجر من الفنانين بحثاَ عن آفاق عمل لا يراها ممكنة في العراق، ارى ان كثيراَ منهم وهذا ما ألمسه في لقاءاتي بهم حين أسافر، لم يزل أبن التجربة العراقية فنياَ وروحياَ وهذا أعتبره مهماَ لتدعيم صورة الفن عراقياَ حتى وإن توزع الفنانون بين جنبات الارض الفسيحة، فهم ولانهم بدأوا بشكل سليم ووعوا روحية شعبهم بشكل دقيق، سيظلون يخفقون بروحية الفن الرفيعة المتصلة الجذور بوطنهم وهذا يدعم الفن العراقي المتشكل داخل الوطن والذي أجدني بعميق الصلة به، ولا اتمكن من الانفصال عنه لذا انا باق هناك .
اما عن الاحبة الراحلين الى صمت الموت، فلا أحد يشغلني عنهم، بل أنني لفرط ما اكتبه عن الموتى، أصبحت على حد وصف البعض متخصصاَ بالكتابة عن الموتى من أهل الفنانين، وكتابتي عنهم استذكاراَ لقيمتهم وتأثيرهم، ومن هؤلاء كان المبدع جعفر علي الفنان الذي اغنى المسرح والسينما ايضاَ وعاش آخر ايامه في الظل، دون ان يتوجه اليه أحد والثناء عليه، اكان ذلك على المستوى المادي أو المعنوي . مات جعفر علي محروماَ من لمسات الثناء.........