مقالات  



عمّان تحنو على الغريب ومنها يطل على هشيم بلاده*

تاريخ النشر       13/01/2011 06:00 AM


علي عبد الامير
حين جئت عمّان للمرة الأولى العام 1982 كانت الحرب اختصرت العراق وكان كل شيء مرهون بنتيجتها الفصيحة والمعلنة بوضوح كريه: الموت .
وفي خطوتي الأولى في ( جبل الحسين ) استعدت ما افتقدته وكل العراقيين ، العيش بلا حرب . غمرني هدوء الناس وحديثهم بأسى عن "مستقبلنا الذي صار مرهوناَ بالقذائف"، وهو ماقالته صاحبة متجر لبيع الملابس النسائية طلبت نصيحتها في اختيار شيء مميز لامرأة كنت أحبها.
أحببت عمّان كونها مدينة بلا حرب بل وتكره الموت المجاني في استعراضات القوة الجوفاء، وتقرأ بلغة هادئة، ماتزال الى الآن تثير لبساَ عند من يجد في الكارثة بطولة، وقائع راهنة وآفاق مستقبل .
 كنت مرعوباَ حد انني كنت أتوقع الموت وقد أرخى سدوله على كل الأرض، واذا بعمّان تسقط هذه الفكرة من رأسي، واذا بها تنفتح لما كنت وأجيال من العراقيين قد افتقدناه : مكان آمن ووقت ينفتح على نزهة واسترخاء عند مقهى على رصيف، فكم كان الصباح انيساَ باذخ الجمال، وانا أقرأ في كتاب بالأنجليزية يتناول تأثير اغنيات البيتلز على الفن التشكيلي المعاصر في بريطانيا، بعد ان تناولت فطوراَ لم يزل الألذ في مقهى "دبلومات" بالدوار الأول ؟
ولعي بالموسيقى، وجديدها الغربي تحديداَ، كان حين وصلت عمّان في اقصاه، وما أدهشني هو إمكان حصولي على ما أفضل من أعمال بيسر وبسعر زهيد رغم ان الأشرطة كانت أصلية وهو ما كان مستحيل الحصول عليه في بغداد، وكنا مجموعة من الحالمين نتبادل الأشرطة الموسيقية الأصلية بحرص بالغ وكأنها منشورات سرية!!
عدت الى بلادي بعد نحو اسبوعين، وعاد البارود يغطي عقلي وروحي حين كانت المعارك تتقاذف مصيري ومئات الآلاف كعصف مأكول، وظلت عمّان ومضة من جمال اغنية ازاء ايقاع منتظم في الخراب. بعدت بي الطريق عن (جبل عمان) لكن في مكتبتي الموسيقية وبعضاَ من آثاث بيتي ما لا يفتأ يذكرني بصباحات لا تعرف ايقاع الموت الذي تهرس فيه الحروب، حياة الناس، وبنزهات للروح والعقل لا توقفها قسراَ تواريخ الإلتحاق بالجبهة .

هواء لم تلوثه الحروب
بهذه الفضيلة جئت عمّان ثانية العام 1991، وبتأثير اقوى من الحنين لخطوات رشيقة وخفيفة مشيتها بين جبلي الحسين وعمّان، او تلك الأيام الطليقة والمبهجة في (العقبة)، جئتها وظهري مكسور بعد ان كنت شاهداّ ميدانياَ على الكارثة التي كسرت ظهر بلادي، حرب الخليج الثانية، ومن نافذة في الطابق التاسع من (عمارة الشابسوغ) رحت اتطلع ساهماَ الى عمّان وقلت لمضيفي الأردني: "هذه مدينة احبها ، فدعني هنا استنشق هواء لم يلوثه بارود الحروب" ليقرأ الرجل في شرودي الحزين نتيجة ما، كان قد عرفها عن كارثتنا التي رسمت عنده وعند اردنيين كثر كبطولة .
ما لم يجعلني مبتهجاَ كما توقعت بعودتي الى عمّان، هو انني كنت اصحب تاجراَ قريباَ لي كنت بدأت العمل معه بعد ان فقدت مع كارثة البلاد عملي المهني طبيباَ بيطرياَ في شركة دواجن خاصة قلّصت عملها بعد الحرب، وسرّحت منتسبيها الذين استدعوا الى الخدمة العسكرية .
 لم اجد متسعاَ من الوقت للذهاب الى الأمكنة التي احببت، ولم يكن معي من المال ما يجعلني قادراَ على اقتناء مباهجي، ولم تكن الروح قد خرجت بعد من هول الأجساد المشوية للجنود العراقيين في "طريق الموت". اكتفيت بالتطلع الهاديء من خلال نافذة في الطابق التاسع بـ(عمارة الشابسوغ) وبمتعة الوقوف عند "كشك ابو علي" وتصفح الكتب والمجلات والجرائد التي تكشف انفتاحاَ وتعدداَ في اشكال الأتصال مع المعرفة، وهو ماكنت اعاني نقصاَ حاداَ فيه، فانا من مكان لا يكره شيئاَ قدر كراهيته لتعدد الآراء والإختلاف في الأفكار .
 


مشهد عمّاني من نافذة بيتي في العاصمة الاردنية آواخر العام 2010
 
"إنغلش مان إن نيويورك" ... عراقي في عمان !
وفي مناسبتين خابيتين خلال العامين 1992 و 1993 جئت عمّان ولكني فيهما كنت أقل يأساَ وبدأت اعتياد الكارثة، وفيهما كنت أقارب حالي مع الأثر التهكمي العميق لأغنية الأنجليزي ستنغ "آيم انغليش مان إن نيويورك"، فأقتنيت من محلات في (الدوار الثالث )  و (وسط البلد) ما كنت اتوقعه يحمل السرور الى من أحب . واشتريت اشرطة جديدة من موسيقى فانجليس، كيتارو، واغنيات جديدة من فيروز ومارسيل خليفة ولإبن شقيقتي اشتريت له سيلين ديون ومرايا كيري التي يحب وديوان "احد عشر كوكباَ" لمحمود درويش الذي كتبت عنه مقالة لاحقا في بغداد لها مذاق خاص عندي .
ورغم التجوال الخاطف في مدينة من مذاق خاص وبما يجعلها صادمة لزاوية النظر التي اعتادها العراقي في التعاطي مع المدينة المستوية الأفاق، فعمّان ضيقة الأفق لجهة الأنكسارات المتعددة للرؤية بسبب الجبال السبعة التي تكونها، ورغم انني لم اقم طويلاَ في المدينة الا ان احساساَ غامراَ راودني قبل ان اقرر الرحيل من بغداد، هو ان عمّان مدينة رحيمة بالغريب، والدليل انها المدينة الوحيدة التي، حتى ايام قريبة، تقبل دخول العراقي دون اهانته واذلاله كما كان يفعل "الأشقاء الذين يتحدثون اليوم عن تضامنهم وبقوة مع الشعب العراقي"، وهو تضامن، عماده النفط العراقي المهرب، فيما كانت عمّان تفتح الطريق امام العراقي ليستعيد اتصاله الحر بالعالم دونما ضجيج شعارات وترمم جراحه دون بروباغاندا، رغم انني ما التقيت في ثلاث زيارات خاطفة، اصدقاء من كتْاب الأردن ومثقفيه، ولم التق اصدقاء عراقيين سبقوني الى "الهجرة" الا انني وجدت حنواَ من نوع خاص في عمّان، ونبضاَ يشبهني، وانشداداَ الى الحياة، انتزعته الحروب، او كادت، مني فقررت ان اجيء اليها دون ان اقول لها وداعاَ، ودون ان أظل أسير الحسرات وانا أرنو الى انفتاح يسميه اصدقائي الأردنيون "نسبياَ"، وانا اجده غاية ما اتمنى من قدرة على الإتصال الحر بالعالم وبنبض تحولاته، لا سيما وانا الخارج من مكان ينظر الى أي اتصال مع الآخر على انه خيانة !
قبل ايام من قراري اسدال الستار على مسرحية تعايشي مع الكارثة ومعاقرة الصمت مع ابطالها كتبت نصاَ بعنوان : " ينبغي أن أنسى " وفيه :
ينبغي أن أنسى
ينبغي ان أضم اصابعي الى راحة يدي
ينبغي ان أنسى صورتها مبسوطة ،
وأفرح بها مكتومة ومتيبسة .
ينبغي ان أنسى رائحة الطين ،
وتهدج روحي ،
فهذه الأرض ليست لي
وضاقت بي قدر ما ضقت بها.
ونسجاَ على نغم "الهجير " وضرورة نسيان البراهين الراسخة للموت الرخيص، وصلت عمّان فجر التاسع عشر من تشرين الثاني العام 1994، وصلت مكاناَ سيأخذني الى محبة الموسيقى ثانية، والى مصالحة الروح والعقل، والى تدفق في الشجن والى عمل ثقافي جدي وصارم لا يهدأ، الى مكان انيق والى هواء نظيف، لامزيد من البارود فيه يسمم حياتي ، الى مكان اتمالك نفسي فيه واهدأ كي :
"أحث الضوء لقنديلي 
  تتواري خلفي الحدود
  ويغويني الحطام بفتنة اللهب"
هنا في مكان حان على غريب مثلي، هدّأ روعي، ومنه ، من موسيقاه التي انشغلت بها ولدلالاتها اخلصت ، كتبت الى قبر امي ما ستهّل اليه دموعي الى حين يحمل جسدي الى مثواي .

* من مقدمة كتاب قيد الطبع بعنوان "موسيقى عمّان ، نظرة الى حياة مدينة بين ألفيتين "، وهي بالاصل مقالة نشرت في "الرأي" الاردنية العام 1999.

 



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM