بابيت: رقة بغداد التي لاتضاهى

علي عبد الأمير

تاريخ النشر       20/10/2009 06:00 AM



الى عدي القزويني
في العام 1992 وبعد ان انكسر ظهر البلاد تماما، انطلقت ارواح عراقية تبحث عن "ملاذات شخصية" تعويضا عن انهيار آخر احتمال بالتوافق مع الافق العام الذي كانت تمضي اليه احداث البلاد. في خريف ذلك العام زارني الصديق الشاعر والمهندس هادي القزويني في "مشتمل" صغير كنت اسكنه في منطقة "المسبح" الجميلة ببغداد ليقضي بعض الوقت معي في الاستماع الى الموسيقى لاسيما ان مكتبتي النغمية كانت تغتني دائما بمجموعة جديدة من نتاجات الموسيقى المعاصرة . وفي حين ارخى ليل بغداد اولى لمساته الهادئة والعميقة دعاني "ابو تيماء" الى زيارة شخص قال انني اجد فيه لمسة رقيقة لا تضاهى دون ان ينسى سؤالي: ماذا لو تجلب معك اشرطة من اعمال موسيقية من النوع الذي تحب ان تقدمه الى اصدقاء مميزين ؟

             
                               محل بابيت في العام 2005
 
في سيارة "نصر" متداعية ولكنها كانت تتهادى برشاقة عجيبة وصلنا الى المنصور وتحديدا الى عمارة "الرواد" التي اخذت اسمها لاحقا من شهرة محل التسجيلات الموسيقية ومن محل المثلجات اللذين يحمل الاسم ذاته، وفي الطابق الثاني من العمارة دخلنا مكتبا حمل اسم "المحامي عدي القزويني"، ومن النظرة الاولى امكنني ملاحظة اناقة المكان فضلا عن هدوئه الرائق المنمق بلوحات اصلية لرسامين عراقيين معروفين فضلا عن نسخ من مجلة "الناقد"  التي كانت ممنوعة من التوزيع في العراق لنشرها مقالات ونصوص لمعارضي النظام فضلا عن نشرها المذكرات المثيرة للجدل عن الحرب والتي كتبتها التشكيلية الراحلة نهى الراضي ، وهي من مجموعة منشورات مختارة كان يحرص صاحب المكان على جلبها معه الى بغداد اثناء سفراته الى عمّان وبيروت.
في انتظار فراغ المحامي القزويني من ضيوفه امكنني الخروج من مكتبه لتقابلني الساحة المواجهة لمحل الازياء الشهير "بابيت" والذي شمله قرار التعريب واصبح يحمل اسما لا معنى ولا دلالة له بحيث انني من الصعب ان اتذكره الان وانا المعروف بذاكرة تحفظ حتى التفاصيل الصغيرة ."بابيت" مرة اخرى ولكن بعد ان تبدلت الملامح والعادات والنفوس والازمنة ، غابت ملامحي صحبة صديق الطفولة ثم المراهقة عماد محمود القيسي الذي رافقته في "مدرسة المثنى الابتدائية" بالمسيب وسبقته الى بغداد في العام 1966 لاستقر مع عائلتي في منطقة البياع ثم ينتقل هو وعائلته اليها بعد ذلك بسنة الى بغداد وتحديدا المنصور ،وهناك لطالما كنا نلتقي بعد ان كنت انهي دروسي في "اعداية المأمون" القريبة ، واشتركنا في احلام كانت تبدأ من الساحة المقابلة ل"بابيت" حيث اجمل الفتيات يدخلن المحل الشهير للتطلع في مقتنياته من الملابس الانيقة الغالية ولا تنتهي بفرقة غنائية تقلد مثيلاتها الغربية الشهيرة وتقدم حفلاتها في نوادي المنصور الاجتماعية الكثيرة: نادي الاطباء ، نادي المهندسين ونادي التعارف الخاص بالصابئة والذي تحول ملتقى للنخبة الاجتماعية البغدادية الراقية .افترقت عن عماد القيسي مع نهاية الدراسة الاعدادية حين سافر الى الامارات للعمل ولكنني التقيته بعد نحو ست سنوات في بيت عائلته حين عاد في اجازة وهو ما عرفته بالصدفة عن طريق شقيقه سهاد الذي ورث عن عماد عادة الوقوف امام "بابيت" مستعرضا وسامته واناقته المفرطة في اقامة علاقات نسوية لاتنتهي ، واجمل ما حمله الي  عماد في عودته كان اسطوانتين جديدتين واحدة لكارلوس سانتانا والثانية لفريق بيجيز وتحديدا اسطوانة "سبرتس هافينغ فلون" التي كانت اغنياتها ومنها" تراجيدي" حققت شهرة طاغية.
و"بابيت" كان المكان الذي التقيت فيه فتاة جريئة من الناصرية كانت تدرس في معهد الفنون الجميلة وتسكن القسم الداخلي لطالبات المعهد في المنصور ، سمراء جميلة لم تتردد في ارتداء "الميني جوب" او بنطلونات "الجارلستون" وان كانت تصطحب معها عباءتها السوداء حين تتوجه جنوبا الى مدينتها في الاجازات الطويلة .. ولاول مرة كسرت معها القاعدة التي تقول ان السمراء العراقية تنجذب الى الرجل الابيض البشرة والعكس صحيح ايضا، ومعها رق  كثيرا "شارع  الاميرات" وحديقته الوفيرة الظلال وعشبها الذي اختزن الكثير من رعشات جسدينا .. كنت التقيت تلك الجريئة العذبة اول مرة في حفلة اقامها المعهد لتخرج طلبة قسم الموسيقى في العام 1975 على "قاعة الشعب" وصادف ان جلست الى جانبي وسالتني عن طبيعة الملاحظات التي كنت اكتبها في اوراقي ، لاجيبها بانني افعل ذلك تمهيدا لكتابة موضوع عن الحفل لصحيفة"طريق الشعب" ، ثم افترقنا بتحية على باب القاعة الضاج بحيوية الطلبة الخريجين والمحاطين ببهجة ذويهم وحفاوتها . "بابيت" جمعنا مجددا على بابه وقادنا الى مشوار انيس انتهى ،كعادة الاشياء الجميلة الى غموض ،فلم تحضر بنت الناصرية الجريئة الى مكاننا الاثير كما اعتادت ان تفعل عصر اول خميس بعد العودة الى الدراسة .
"بايبت" كان اكثر من مكان لبيع الازياء المستوردة الفاخرة على الرغم من تبدلات "قسرية" طرأت عليه مع التشديد على ان تكون منتجات معامل  الخياطة الحكومية من بين معروضاته،فهو ملتقى النخبة الاجتماعية البغدادية،حتى انني اتلقيت الجمال الباذخ للفنانة الراحلة ليلى العطار اول مرة حين خرجت من "بابيت" بملامح لايمكن ان تنسى من الانوثة والاناقة،بل اكاد اتذكرجيدا ذلك المزيج النادر حينها من الالوان والسائد جدا هذه الايام ، فقيمصها كان فيه تدرجات اللون الازرق مثلما في تنورتها تدرجات اللون البني ، ومع خطواتها المحسوبة تحركت ملامحها من تلك التي توثقها صورة او اثنتان اعتادت الصحافة نشرها الى صورة الجمال الحي الاخاذ الذي نثر على الرصيف المقابل عطرا ساحرا من جمال جارح .
و"بابيت" كان علامة مميزة لاجمل ما اشتريت من ثياب ، لاسيما ان ما كنت اوفره من مال نهاية كل عام دراسي جامعي وما كنت اكسبه من عملي في العطلات الصيفية ،يجعلني قادرا على الدخول بثقة الى المحل الفاخر واقتناء ما احب من قمصان وبدلات احيانا، فاتذكر قميصا حريريا ازرقا كان سعره(عشرة دنانير) كفيلا بنيلي كلمات غاضبة من اهلي  وتعليقات ساخرة من اصدقائي ،وكنت احرص على ارتدائه مع بدلة "كاجوال" حليبية اللون اشتريتها من المكان الذي يفتتني بافخر العطور وملطفات الوجه لما بعد الحلاقة .كنت مأخوذا بفكرة الاستقلال الشخصي عن العائلة حتى مع معرفتي بقدرتها على منحي ما اطلبه من مال : عملت بائعا للقمصان في محل بشارع الرشيد يوم كان فعليا "مدينة في شارع" ، وعملت في عطلة تالية رزاما للكتب في مطبعة بمنطقة "الحيدرخانة" ، ومراقبا للبناء في مشروع عسكري في التاجي ، وبائعا للكتب في "مكتبة النهضة" وبائعا للاشرطة والاسطوانات في "تسجيلات صوت الفن" وموظف حسابات في "مطعم ابن ضعيفة" في الباب الشرقي،ومع تلك الاوقات خبرت حيوات كثيرة لكنني لم اعبأ بحكايات " المعاناة" الفلوكلورية ومشاعر "التضامن"مع "الكادحين" على الرغم من انني كنت فكريا اقرب الى تلك الافكار،بل كان همي الاول في ان جمع مالا يضمن لي حياة مستقلة حقيقية. صحيح ان الامر بدا مع تحولات حياتي اقرب الى الوهم لكنني كنت سعيدا بما اكسب وسعيدا اكثر بالطريقة التي كنت انفق فيها ما اجمع من مال : كتب ورحلات ودعوات للاصدقاء وتبرعات للحزب الشيوعي فضلا عن اسنادي بيت شقيقتي الارملة وابنائها الستة الذين كان يفرحني ان احمل لهم من الهدايا ما ينسيهم فقدان اب لا يعوض اذ كان احد اكثر البغداديين دماثة خلق واناقة ونظافة.
وفيما كانت البلاد تتجه الى فترتها الدموية ، ادمنت انا وصديق العمر "امين" التجوال في المنصور عصريات صيف العام 1979 ، وكنت احيانا اقضي وقت الظهيره في منزل عائلته بحي العدل ونركب الباص 92 حتى تقاطع شارع 14 رمضان ومنه تبدأ رحلتنا تسكعا لا الذ ولا احلى، تشتبك فيها الاحاديث الجدية بالتعليقات الساخرة المستمدة من المشاهد التي كنا نلاقيها او كنا جزءا منها ، وكانت الساحة امام "بابيت" تأخذ منا وقفة خاصة لاسيما انها مع الغروب كانت تصبح مهرجانا لجماليات الحياة ومباهجها ،ولم نكن نغادرها حتى يكون الليل ارخى سدوله في طريقنا الى نادي الاطباء حيث اصبحنا عضوين فيه بعد تخرجنا من كلية الطب البيطري ، وهو ما اتاح لنا جلسات انيسة في حديقته التي يحمل ندى عشبها واشجارها انساما رقيقا كانت تتداخل مع رقة احاديث حين ينضم الينا زميلات وزملاء ممن كانوا يسهرون في مكان كانت اوقاته تسترخي فيما اوقات البلاد تقترب بخطى حثيثة من الكارثة.... ومن هنا لم تكن مفارقة انني وامين تابعنا خطاب احمد حسن البكر الذي اعلن فيه الاستقالة واستلام صدام حسين السلطة المطلقة من على ارجوحة كان فراشها وحديدها يبردان  للتو مع انسام الليل الرقيقة في "نادي الاطباء". 
من شرفة تطل على "بابيت" وقد احاطه الظلام ،استعدت هذا الشريط من بغدادي الشخصية قبل ان يناديني صوت هادي القزويني كي ندخل معا الى مكتب ابن عمه المحامي عدي القزويني الذي يمنحك احساسا فياضا بالالفة معه : اناقة محسوبة ، جسد رشيق ،ملامح هادئة تحيلك الى الطابع السمح لابناء العوائل العراقية المعروفة ،ثقة في الحديث ،سعة في المعرفة بقضايا تبدأ من مأزق العراق السياسي والاجتماعي ولا تنتهي بجديد الثقافة العراقية والعربية ..قدمت له ما حملته من اشرطة موسيقية "عربون" صداقة ما انفكت الى اليوم تمدني بالعذب والرقيق من اللمسات .القزويني خبير امكنة السهر الجميلة، له في كل مدينة حكاية مع نواديها الفخمة،ففي عمّان خبرت معه نوادي الدوار الاول والثاني ، مثلما عرفت معه في دبي "النادي الاسكوتلندي".معه يكون الوقت انيسا وتمتزح الحكايا بنبرات صوته الهادئة وهي تمضي في الوصف الدقيق لاوضاع البلاد واهلها اعتمادا على نبع من الحكمة الاجتماعية والخبرات الشخصية الى جانب الاستقراء القائم على المعرفة المستمد من ذخيرة القراءة لكتب مختارة في الادب والتاريخ والقانون وعلم الاجتماع والتراث.بيته في عمّان كان صالون محبة قبل ان يكون صالونا ثقافيا اسبوعيا لنخب عراقية .بيته المستأجر في العاصمة الاردنية كان يزدان بلوحات واعمال نحتية من مدارس واساليب عدة ابدعها تشكيليون عراقيون مرموقون وان تعددت اجيالهم.
عدي القزويني من العراقيين القلة الذين تفخر بالانتماء الى البلاد لانها كونتهم، ولانه يستحق مثل هذا الفخر ولانه حيوية عقل وضمير،كان من الطبيعي ان لايجد موقعا له بين "الصفوة"الحاكمة اليوم مع انه يمثل انقى ما في المذهب الشيعي من احترام العقل والمشاعر والارتباط العميق بين الهوية الوطنية العراقية والنخبة الشيعية،بل هو من النماذج التي منحت تلك "الهوية" ملامحها الواقعية وجسدتها في امثلة حية ، بيته مفتوح للعراقي السني والمسيحي وعلاقته امتدت الى يهود عراقيين كان التقاهم اثناء هجرته الى كندا ، لم يأخذ من "الفكرالقومي العربي" لوالده الشخصية البغدادية المرموقة السيد تقي القزويني الا بعده العلماني وايمانه بقدرة الثقافة والمعرفة على اعلاء التكوين الانساني .
لم يتردد القزويني الرقيق عن ان يشاركني مساءات نادرة من الجمال رغم ان بيتي كان صغيرا في بغداد وكان اصغر بل ضيقا في عمّان ، وكم حمل يداه الى ابنائي وابناء الصديق هادي القزويني الكثير من الهدايا حين كانت ليالي الغربة تجمعنا على نسمة من هواء عراقي مبدد، كان روحا حانية وقلبا كريما بفيض المحبة ومن هنا كانت بيوتنا تتسع بوجوده حتى وان كانت ضيقة بل خانقة .انه مثال الشخصية العراقية ،بل البغدادية تحديدا، التي تثير بوجوها جوا من الدفء والامان والثقة:متعلمة،مؤدبة،مرحة ومتواضعة مع انها خبرت الكثير من الدروس والتجارب وعرفت عن قرب شعوبا ومجتمعات ودولا.
ليس غريبا ان اطل على مشهد اثير من بغداد يوم كانت تحتفي بالحياة ، ليس غريبا ايضا ان استعيد ذلك المشهد المترف الذي مثله"بابيبت" من على شرفة مكتب المحامي الانيق والانسان الرقيق عدي القزويني.وفي حين لف الغبار والنسيان والصمت مكانا منتميا لبهجة الحياة مثل"بابيبت"فان مكتب المحامي عدي القزويني هو الآخر اسير غباره وصمته الآن،كأن المكانين شاهدان على مدينة تضمحل فيها الحياة لتصبح عاصمة الغبار والعدم.


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM