علي عبد الأمير عجام
لم يكن وصف السيدة الفاضلة زوجته بعيدا عن حقيقته، "انه الامير الجميل"، مثلما تكن انحناؤتها على جثمانه وهي تنادي عليه: "يا حبيبي يا ود انهض فهذا النوم لايليق بك، انهض واستقبل اصدقاءك"، وكذلك لم تكن دموع الرجال حتى ممن تقدم بهم العمر الا تعبيرا عن عمق خسارتهم برحيل رجل قل نظيره. انه بحسب تعبير صديق طفولته الطبيب د ليث الكندي "آخر الرجال المحترمين". انه صاحب اللياقة العالية والتهذيب المفرط في السلوك، مثلما هو الذواقة في الفنون وتحديدا في التشكيل والموسيقى حيث تتوزع جدرانه بيته في العاصمة الاردنية مقنيات من نتاج الرسامين والنحاتين العراقيين المعاصرين، كما ان مكتبته الموسيقية تزخر بالجميل والاصيل والنادر من النغم، بل كان الراحل يقدم بعضا مما تحويه مكتبته من تسجيلات غنائية نادرة هدايا ثمينة لمن يحب من اصدقاء واحبة اشك ان عراقيا يتوفر عليهم سعة وتنوعا. انه وداد عجام السفير والدبلوماسي الذي طبع بعمله من خلال ادارته لعقود مديرية المراسم في وزارة الخارجية، جوانب مهنية رفيعة المستوى بعمل الدبلوماسية العراقية. وهذا الجانب المهني والالتزام العالي به وفر له احترام كل الذين تولوا الوزارة واركانها، بل هو في هذا الجانب المهني كان يجسد مفهوم "التكنوقراط" تجسيدا حقيقيا لجهة ايلاء العمل حقه بغض النظر عن الجهة السياسية التي كانت تديره او تحاول تجييره لصالح سياستها الضيقة. كان ناجحا كسفير في تنزانيا وكقنصل في السفارة العراقية بطهران وكذلك في عمله قنصلا بالمحمرة، وموظفا دبلوماسيا عراقيا في مدن اوروبية منها بودابست ولندن التي شهدت اول واجباته الدبلوماسية في ستينيات القرن الماضي حين انتقل اليها من وزارة البلديات التي عمل فيها بعد تخرجه من كلية الحقوق، ثم انتقل بعد سيرة دبلوماسية خارجية الى مقر وزارة الخارجية ببغداد مديرا لدائرة المراسم، وفيها وعلى يديه تعلمت اجيال من الدبلوماسيين العراقيين فنون اللياقة والتهذيب وحسن التصرف والتعاطي مع المجتمعات والقيادات الدولية برفعة واناقة وبما يدل على عمق تاريخي وانساني يليق ببلاد الرافدين.
الراحل وداد عجام بين زمنين
هو ابن الناصرية التي شهدت لعائلة عجام دورا اقتصاديا وثقافيا وانسانيا مؤثرا، مع انها اصلا تعود الى مدينة الحلة، وفي جدية لافتة انهى دراسته القانون ثم بجدية اكبر طوّر مهاراته في اداء العمل الوظيفي بعيدا عن فخاخ السياسية والانتماءات الحزبية الضيقة، معولا على قدراته العلمية والمهنية وليس على الانتماء الحزبي والسياسي، وهو ما وفر احترام جميع القوى ممن تولت حكم البلاد منذ ستينيات القرن الماضي حتى يومنا هذا اذ كان مستشارا في مجلس الوزراء. بل ان حرص وزارة الخارجية العراقية على ان يكون مقرها نقطة انطلاق جثمانه نحو مقبرة ال عجام في النجف الاشرف، واصرار العشرات ممن عرفوا تقاليد الدبلوماسية الرفيعة على ان يحيطوه، حتى ومسجى في تابوت، باشارات العرفان والامتنان جاء اعترافا بسيرته المهنية الرفيعة واثره العميق كرجل دولة عراقي قل نظيره. والى جانب سيرة مهنية رفيعة، كانت سيرته الانسانية اشد تألقا والتماعا، فوصف بانه صاحب القلب الكبير الذي يجد متعة لا تضاهى في مساعدة كل من طرق بابه بحثا عن حل لمشكلة وظيفية او لتسيير قضية عامة أو شخصية يجدها عادلة وتستحق بما فيها من معاني الخير والعدل والحق والانصاف. يقول عنه من عرفه انه انسان بكامل الطيبة لا يعرف الحقد طريقا الى روحه حتى على من اساء اليه، بل هو كان يذكر بمحبة حتى اولئك الذين كان يغيضهم نجاحه ولطفه الغامر. كان (ابو غسان) محبا للعلم والمعرفة، قارئا لهما ومتابعا لانجازاتهما، فهو كان يحرص على اقتناء الجديد من المنجزات العلمية التي تتحول ادوات وآلات تسهم في رفعة العقل الانسان واغناء روحه، ومن هنا كان ميله الى التجديد النافع والعميق، مثل حرصه على اناقة الظهور بملامح تجعله كأمير وفارس من عصور النبل والرفعة. واذ اخذه المرض اللعين ليفتك بجسده شيئا فشيئا منذ نحو عامين فان من اصدقائه المقربين من كان ينصح الاخرين بان يتجنبوا زيارته وهو طريح الفراش، فان من كان عرفه جيدا بحضوره الانساني البهيج ومظهره الجميل وسلوكه الراقي وحديثه الزاخر بالامل والمرح كان سيصاب بصدمة حقيقية حين يجد تلك الشعلة المتوهجة وقد خبت. ترى هل يمكن تأبين الأمل ونعي المحبة؟ وبما ان ذلك مستحيل تماما، طالما ظل هناك نبض انساني فان من الصعب بل من المستحيل تأبين الجمال ونعي المرح والرقة وهي صفات لازمت (أبي علي)، بل انه في سيرة من اللطف والنزاهة منحها عمقا انسانيا نادر التكرار في تاريخ الشخصيات العامة العراقية وخلال الخمسين عاما الماضية على الاقل. لعمري ان اثر العم والاستاذ الكبير الدبلوماسي ورجل الدولة وداد عجام ليستحق اكثر من كلمات الثناء هذه، واكثر من مشاعر المواساة لابنيه العزيزين: غسان وعلي وقبلهما للفاضلة النجيبة امهما ورفيقة درب والدهما الرقيق والانسان والنبيل والسيرة التي تحتذى بشرف ورفعة.
|