المايسترو محمد عثمان صديّق بعد نهاية حفل قاد فيه اوركسترا عمّان السيمفوني (كاميرا علي عجام)
وسيرة المايسترو صديق حتى وان بدت اردنية (منح الجنسية الاردنية بعد نحوعقدين قضاهما عملا واجتهادا في المشهد الموسيقي والفني الاردني)، الا انها بدأت ببغداد، وحاله ليست استثناء عن حال افضل الموسيقيين العراقيين في ربع القرن الماضي، فجلهم درس في "مدرسة الموسيقى والباليه" التي تأسست العام 1969 ولتتحول حاضنة حقيقية لمواهب موسيقية باتت متوزعة اليوم بين عواصم العالم. وكان صاحب عدد من الالحان الغنائية التي ادتها اصوات اردنية جميلة بينها المطربتان قمر بدوان و زين عوض، قد عاد إلى بغداد وتحديدا إلى مدرسته بعد دراسته الموسيقية العليا في موسكو وحصوله العام 1987على شهادة الماجستير في فنون العزف على البيانو. وثقة "الاستاذ" بعد عودته لم تنزع من روحه ارتعاشة الخطوات الاولى له في المكان ذاته، وعبر تحصيله العلمي حاول ان يرد جزءا من دين له عليه استاذا وعازفا خبيرا ومؤلفا موسيقيا هذه المرة.
وتقدم حال المايسترو والمؤلف مثالا آخر على اشكالية ظلت تؤرق عددا غير قليل من موسيقيين عرب درسوا وتخصصوا باداء الوان الموسيقى الغربية "الكلاسيكية"، اشكالية تشي باكثر من حوارالثقافة "الغربية " مع البيئة العربية و الشرقية، بل هي تصل إلى ازمة في التلقي باتت جدية مع مؤشرين: الاول في ان "الموسيقى الصرفة" عموما و"الكلاسيكية" تحديدا تعاني انحسارا في التلقي على مستوى العالم لصالح الشكل الموسيقي "الاستهلاكي"، والثاني يتمثل في تصاعد قيم محلية متشددة باتت تضيق الخناق على فكرة الاتصال الثقافي الجدي مع الغرب.
انها اكثر من ازمة"هوية ثقافية" عربية وشرقية حد انها باتت تطرح نفسها نوعا من "الاغتراب" وان سعى بعض من عانوا هذه الازمة إلى نتاج ثقافي "توافقي"، وفي حال الموسيقيين العرب ممن عملوا في ميدان الموسيقى الغربية تاليفا وعزفا غالبا ما نجد اعمالا مكتوبة وفق الاطار الغربي دون ان تنقطع مع بيئتها المحلية.
وفي مؤلفات صدّيق للاوركسترا وتوزيعه اعمالاً موسيقية او حتى في عزفه على البيانو، يمكن ملاحظة "روحية"عربية وشرقية يرى ان ذاكرته السمعية تدربت عليها، وهو من خلال دراسته للموسيقى الغربية مثل اعمال بيتهوفن وجايكوفسكي وباخ وموتسارت اكتشف ان موسيقى كل هؤلاء المؤلفين نابعة من تراثهم، واشهر اعمال جايكوفسكي جاءت من ألحان تراثية من الريف الروسي وموسيقى بيتهوفن جاءت من ألحان شعبية كان الفلاحون يغنونها في احتفالاتهم واشتغل عليها بيتهوفن وحولها إلى موسيقى عالمية.
ويبني المايسترو والمؤلف صديق فكرته عن الموسيقى العربية انطلاقا من غنى الالحان العربية والآلات الموسيقية الشرقية بصورة عامة ، ورغم تخصصع بالعوف على البيانو، الا انه انتبه بل اشتغل مبكرا على الموسيقى العربية والآلات الشرقية مثل العود والناي والجوزة والقانون. ورأى ان هذه الآلات متميزة بصوتها ودافئة وقريبة لسمع الانسان وفيها امكانيات متطورة وعالية جدا، لكنها "تحتاج إلى دراسة وتطوير وبحث كما هي بحاجة إلى عازفين متطورين اكاديميا، عازفين يدرسون هذه الآلات ويدّرسون الموسيقى بصورة علمية ويطورون مهاراتهم وان لا يعتمدوا فقط على السمع والتلقين".
صدّيق..نظرة الموسيقي تقود دائما الى فسحة الضوء (كاميرا علي عبد الامير عجام)
وثمة حضور بارز للملامح "المحلية" العربية في اعماله ، فثمة روح المكان العراقي مثلما هناك نغم عربي وشرقي كلاسيكي، وهو يرى ان من المهم ان يتقدم باحترام نحو موروثه النغم العربي " لقد تعلمت من الغربيين احترام موسيقاهم، هذا علمني كيف نحترم موسيقانا ونقدمها بأسلوب راق".
وعن تحقيق "الانسجام" بين محلية اللحن وشكل الاوركسترا السيمفوني يوضح صاحب "كونشرتو الناي والاوركسترا" بانه ممكن "من واجبنا ان نوصل موسيقانا للعالمية من غير ان نؤثر على التراث. انا وظفت الآلة الشرقية في مؤلفاتي بأسلوب آخر ولي مقطوعات كثيرة جدا مكتوبة لآلات شرقية وبصحبة آلات غربية او كونشرتو بين آلة شرقية والاوركسترا".
وهو هنا يشير الى عمله الذي يجمع بين الناي والاوركسترا وكتبه بطريقة تمكن أي اوركسترا في العالم من عزفه لأنه يخلو من المسافات المعروفة بين الموسيقى الشرقية والغربية "ربع تون"، ولابقاء هذا الجانب الذي يشير إلى روحية العمل الشرقي ترك حيزا لعزف منفرد للناي، وفيه يمكن للعازف ان يرتجل ويعبر عن هوية موسيقاه.
كما ان من يسمع عمله "حوار الناي والفلوت" سيتأكد من ان الناي لا يقل ابداعا ومهارة عن الفلوت الغربي.
وفي ما يبدو لدارسي الموسيقى العربية ونقادها "مأزقا" اسمه كتابة الالحان العربية وفق اشكال غربية، لا يبدو الامر كذلك عنده ، فهو يشير إلى حيوية الشكل الموسيقي الذي يكتب وفقه مؤلفون عرب كثيرون غيره حين يلتقيهم في مهرجان "الموسيقى الجادة" السنوي بالقاهرة . واتصالا مع هذا "الاغتراب " الذي يرفض تسميته "مأزقا" يعلّق صدّيق على هجرة موسيقيين عرب كثيرين إلى الغرب ويقول " في سنة 2004 نظمت المانيا لقاء موسيقيا وقدمت عملي "الرباعي الوتري" في متحف برلين، وهناك تعرفت على موسيقيين عرب متميزين في اعمال لو جمعت وسجلت، فانها ستحدث ثورة في الموسيقى العربية وبسهولة ستصل إلى المتلقي الغربي".
وعن حال الموسيقى العربية الآن يرى صدّيق ان الحديث السائد عن تدني ذائقة الجمهور وجعله سببا لتراجع الموسيقى الجادة، حديث يفتقد الموضوعية " الجمهور يفضل هذه الموسيقى.. جمهورنا ذكي وناقد وواع. عندما نقدم اعمالا كلاسيكية عربية لمحمد عبد الوهاب وصلحي الوادي نرى ان الجمهور يتفاعل معها ويعجب بها ويسألنا عنها، بالتأكيد هناك تقصير في اظهار اعمال مؤلفين عرب كبار، هناك مثلا اعمال رائعة جدا لمؤلفين عرب ، ولكن كيف يمكن للمتلقي العربي ان يسمعها"؟.
السؤال الذي ينهي به صدّيق تعليقه يكاد يصبح "نقدا" لحال تقاعس في دعم حضور بامكان الموسيقيين العرب الجادين تحقيقه لو توافرت فرص حقيقية لهم " هناك مسابقات عالمية للموسيقى الكلاسيكية الغربية لكننا لم نسمع عن وجود مسابقة للموسيقى العربية الكلاسيكية، تراثنا غني جدا وانني غالباً ما اعود إلى تراثنا لاستعيد عافيتي الموسيقية".
*نشرت في صحيفة "الحياة" وبحسب الرابط التالي