علي عجام
عرفت بغداد كأشهر المدن الثقافية والاجتماعية والسياسية في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي). وارتبطت «مدينة السلام», لا بتأسيسها وحسب, بل بموقعها من تاريخ الخلافة العباسية. كان أبو جعفر المنصور أول من اتخذ بغداد عاصمة له بعدما قضى على منافسيه. وفي عهد الرشيد بلغت بغداد قمة مجدها فامتدت الأبنية على جانبي نهر دجلة الذي يخترقها, فهناك جانب «الكرخ» وجانب «الرصافة». وبسبب نشأتها القائمة على خلفيّة سياسية (مقر الخلافة), كانت اوضاعها الإنسانية والإجتماعية مرآة للأوضاع السياسية. ومع مرحلة تراجع دولة بني العباس تراجعت بغداد حتى لم يبق من مملكتها المترامية الأطراف, عام 1157, سوى مركز المدينة وأعمالها وقليل مما يتصل بها... ومع حلول العام 1258 دخل هولاكو بغداد وأفل نجمها. أنشأ أبو جعفر المنصور بغداد العام 763 على الضفة اليمنى من نهر دجلة في الزاوية المتكونة بين مجرى الفرات ومجرى دجلة شمالاً, ولقد بنى المنصور المدينة مدورة لتتيح للحاكم ان يكون في موقع واحد من جميع الأطراف ضمن الدائرة, وبنى لها أربعة أبواب, وشقّ فيها الخنادق, ثم بنى القصر والجامع في وسطها. بلغت بغداد أزهى عصورها في القرن الذي أعقب وفاة المنصور, وللدقة في عهد خلفائه الخمسة من المهدي (776) إلى وفاة المأمون (833), إذ كانت مساحة المدينة خمسة أميال مربعة عندما اعتلى المهدي العرش, نقل هذا الخليفة بلاطه إلى الرصافة فاتسع هذا القسم من المدينة سريعا, واستقرت هناك الأسر الغنية وأتباعها من العبيد والموالي... وشيدت في هذا القسم قصور فخمة أجملها قصر أسرة البرامكة الذي انتقل إلى بيت الخلافة بسقوط هذه الأسرة. وفي بداية حكم الرشيد الذي يعد أزهى عهود المدينة أصبح القسم الشرقي ينافس في الاتساع القسم الغربي. القصر العباسي هو من الآثار النادرة المتبقية في بغداد اليوم, ويعد من روائع التراث الإسلامي في العمارة والزخرفة, وهناك أيضاً من الآثار المتبقية «جامع مرجان» وهو في الأصل مدرسة شيدها مرجان مملوك السلطان الجلائري العام 1357, وجعل ضمنها مسجداً, ووقف عليها الأوقاف الطائلة, ولا تزال هذه المبرة قائمة إلى اليوم على الجانب الشرقي من «شارع الرشيد» وفيها من ضروب الريادة وبديع الصناعة المعمارية. ومن الآثار التاريخية في بغداد اليوم «جامع الخلفاء « وهو جــامع صغير أنشأه الوالي سليمان باشا العام 1193 وقد طمست آثاره ولم يبق منه إلا منارته التاريخية العجيبة المعروفة بمنارة «سوق الغزل». اذا كانت بغداد اشتهرت بأسواقها في عصورها الذهب, فان ما بقي اليوم من اسواق تشي بامتداد تاريخي, هو «سوق الغزل» الذي صار مجمعاً لباعة الحمام الزاجل ثم للحيوانات الاليفة وهو امتدار لـ»سوق الطير» التاريخي, و»شارع النهر» الذي عرف اياما لا تضاهى في خمسينيات القرن الماضي وستينياته, وهو متصل بكل ما تحتاجه النساء الإنيقات من ملابس وعطور وذهب, وما يتعلق بالمعدن الأصفر الغالي هو جزء من «سوق الصاغة» القديم. أما «سوق السراي» المتخصص في تجارة الورق والقرطاسية والكتب القديمة فهو اليوم آخر ملامح «سوق الوراقين « والذي كان يضم مجالس العلماء والشعراء. ومن مدارس العلم والمعرفة التي منحت بغداد شهرتها في ايام مجدها, وما زالت ملامحها قائمة «المدرسة المستنصرية» التي أنشأها الخليفة المستنصر العام 1234, بهدف تدريس المذاهب الأربعة. وبنيت المدرسة على شاطئ دجلة من الجانب الشرقي, وأنفق عليها الخليفة المستنصر بسخاء شديد, فجاءت آية في الجمال والروعة, وهي المدرسة العباسية الوحيدة التي بقيت إلى اليوم ماثلة للعيان. وفي حين عرفت بغداد على مر العصور الإسلامية بمكانة علمية, برز فيها «بيت الحكمة», وهي دار علم ومكتبة كانت تقام فيها مجالس العلم, فإن خزانات كتب خاصة عرفت في ايامها المعاصرة وتحوي كتباً نادرة من أشهرها خزانة «دير الكرمليين» التي أنشأها اللغوي المحقق أنستاس ماري الكرملي, وخزانة المحامي عباس العزاوي,وخزانة الباحث يعقوب سركيس, وغيرها كثير. ولا تكاد تخلو مدرسة من المدارس التابعة للأوقاف في بغداد المعاصرة من خزانة للكتب تكثر فيها المخطوطات, وللمتحف العراقي خزانة خاصة به تضم الكثير من الكتب التاريخية الثمينة, وشجعت الدولة العراقية المعاصرة على حفظ مكانة بغداد كمكان يبجل الكتاب والمعرفة, ففي «البلاط الملكي « خزانة تشتمل على كثير من الكتب القيمة, وفي مجلس الأمة خزانتان إحداهما في مجلس الأعيان والثانية في مجلس النواب. وتشابهت مرحلتان من انحطاط بغداد في انعكاس تراجع الحياة عبر ما لحق بالمكتبات واهلها, فحينما تفشى الطاعون في بغداد على عهد الوالي داود باشا, وما رافقه من فيضان دجلة وحريق هائل أودى بكثير من خزائن الكتب, ولما اشتدت المجاعة في القرن التاسع عشر أخذ الناس يبيعون الكتب القيمة بأبخس الأثمان, اقبل عدد من التجار الاجانب وعملائهم على شرائها, ومثل هذه الحال انتشرت في بغداد خلال العقد الماضي, حينما افرغت سنوات الحصار بيوت العراقيين من المكتبات, وانتشر تجار عرب واجانب من «المتعاطفين» مع الشعب العراقي بين مكتبات «شارع المتنبي» لشراء مئات الالاف من الكتب التي جمعتها نخبة عانت كثيراً بين سندان اهمال الحكم لها وبين مطرقة الحصار, بأثمان بخسة. العاصمة العراقية تضم اليوم نحو خمسة ملايين نسمة, اي نحو خمس سكان البلاد, ومعظمهم وفد إليها في النصف الثاني من القرن الماضي, حاملاً معه اشكال عيش الارياف خصوصاً سكان الجنوب... وطرائق حياة البداوة التي مثلها النازحون من غرب البلاد. ومع حركات النزوح تراجعت الملامح المدينية التي بناها العهد الملكي في بغداد, ولم تتوافق انماط الحياة الغربية كما جسدتها المجمعات السكنية المعاصرة التي توزعت مناطق وسط بغداد مع سلوك ريفي وبدوي لسكان غالبية العاصمة العراقية, وفي حين تأكدت السلطات من ان «العراقي لا يمكن ضبطه اجتماعياً في مجمعات السكن العمودي»... فقد سمحت بإنشاء الأحياء السكنية القائمة على نظرية الامتداد الأفقي لتجمعات سكنية قائمة على البيوت الانفرادية, فانفتحت بغداد لتصبح احدى اكبر عواصم العالم مساحة, الا ان غياب التخطيط العمراني وسوء الخدمات مع توجه الدولة الى اقتصادات الحرب ثم الحصار, جعل من تلك التجمعات تشوهات عمرانية من الصعب اصلاحها حتى في المنظور البعيد. تشوهات طالت معالم المدينة العمرانية والمرافق الاساسية. «المدينة المدورة» التي بناها العباسيون هي مدينة بلا ملامح عمرانياً واجتماعياً وثقافياً هذه الأيام, بل هي لتبدو في تحولاتها مرآة لأوضاع سياسية واجتماعية تختصر حياة البلاد, فهي تتخذ ملامح هادئة ومنظمة متى قاربت اوضاع البلاد ايقاع الهدوء, وهو ما كان مستحيلاً في السنوات الخمس والعشرين الماضية, هي تحاكي فوضى اجتماعية وسياسية تختصر العراق اليوم. حينما قضى الالمنيوم على سوق «الصفافير» وحوّله متحفاً سياحياً لا يذكر البغداديون سوقاً من اسواق بغداد اقدم من «سوق الصفافير» وأعرق منها... بعد ان كسدت صناعات عراقية عدّة, بفعل التحديث الذي دخل على الحياة العراقية, ظلت صناعة «الصفارين» قائمة, وبقي حرفيوها الذين توارثوا صنعتهم «اباً عن جد». و»الصفر» كما يتعارف العراقيون على تسميته هو النحاس المطروق. والشغل عليه «مصدر متعة», كما يقول الصفار عبد سلوم, «على رغم كل ما تعج به السوق من ضجيج الطَرْق على النحاس». ويستدرك مذكّراً بأن الضجيج «يخف مع الأيام, يكون هذه الصناعة انتقلت من شكلها القديم الى اشكال حديثة اخرى». فالزواني التي تنتج هنا انتقلت من الاستخدام في الحياة اليومية للعائلة العراقية الى ان مظهر من مظاهر الزينة... «سوق الصفافير» متفرعة من شارع الرشيد, اقدم شوارع بغداد. كان انتاجها قائماً في الأساس, على كل ما يحتاجه البيت العراقي, من أوان للطعام وقدور للطبخ, ومستلزمات ولوازم أخرى. وعرفت السوق ازدهاراً مديداً. إذ كانت صناعاتها تزود معظم المدن العراقية بمنتوجاتها, شمالاً ووسطاً وجنوباً. ثم بدأ التراجع التدريجي, وحلّ الالمنيوم, ثم الزجاج والخزف الصيني ضيفاً على البيت العراقي, فتغيّرت الحاجات وطبيعة الآنية والقدور. وراحت الصناعة الاساسية لـ»الصفافير» تتراجع, مع تراجع الطلب. فما كان من اصحاب تلك الحرفة الا ان تحولوا بها, بما لها من تاريخ وتراث, الى صناعة اقرب ما تكون الى «التحفيات», او القطع التي يستخدمها بعضهم لاضفاء مسحة تراثية على ديكور المنازل. هكذا ازداد اقبال السيّاح والزوّار على منتجات «سوق الصفافير», في مقابل تراجع اهتمام العراقيين وكانوا الزبائن الفعليين الذين أعطوا السوق حياتها وزخمها على امتداد أجيال متعاقبة. يقول أبو أحمد, وهو من اقدم الصفارين في هذه السوق, ان هذه المهنة التي أخذها عن ابيه الذي ورثها, هو الآخر, عن ابيه, هي بالنسبة إليه «أقرب الى الهواية منها الى الحرفة». ويضيف أنّه يعتبر نفسه «فناناً محترفاً» اكثر منه «حرفياً»: «لي مجالي الخاص الذي اعمل فيه على تجسيد طاقتي الفنية. وأضفي على انتاجي طابعاً شخصياً, لعله نتاج تراكم الخبرة والمهارة». أما داود, فيجد, على رغم تمسكه بهذه «الحرفة», أنها فقدت في نظره اليوم «مذاقها القديم». ويشرح فكرته قائلاً: «كان عملنا أقرب إلى الصناعة. كنا نصنع أواني ومعدات لها مكانتها وأهميتها في حياة العراقيين. وكنت اشعر وانا أمارس صنعتي, بأنني «منتج صناعي». اما اليوم, فلم أعد أعمل بالزخم والاندفاع القديمين... أنا انتج «سلعاً سياحية». ويؤكّد انه لم يعد يجد لها «الطعم» الذي كان يجده في ما كان يصنع في سنوات خلت. غير ان محمود الصفار, وهو اللقب الذي أخذه عن ابيه ايضاً, ما زال يجد متعة كبيرة في الصناعات الدقيقة, الصغيرة الحجم: «أنتج اشياء خاصة, ونادرة... لها جماليتها ومكانتها كتحف فنية». ويضيف: «انها مهنة تنتمي الى الصناعات التقليدية العريقة. لكنني في الوقت ذاته, أعتبر نفسي فنّاناً مبدعاً يمارس حرفة خاصة». ونقع في «سوق الصفافير», إلى جانب المحلات الخاصة بالصناعات النحاسية, على محلات مختصة بالعرض والبيع. أبو سعد, احد اصحاب هذه المحلات, يولي طريقة العرض أهميّة كبيرة, ويجعل من متجره «فضاء فنياً يجلب انظار الزبائن ويستهويهم», كما يقول. وحين تسأله عن «زبائنه» في هذه المرحلة الصعبة التي خلت فيها العاصمة العراقيّة من الأجانب أو تكاد... يهزّ الرجل رأسه بأسى, ويأخذ نفساً عميقاً: «زبائننا من العراقيين ومن زوار بغداد العرب, وقريباً يعود السياح, ويعود الأجانب إن شاء الله». ويذكّر أن «كثيراً من العراقيين - وأسعارنا في متناول جزء منهم اليوم - يقتنون تلك الآنية التي تشكّل جزءاً أساسياً من ديكورات بيوتهم. وهم غالباً ما يقتنون قطعاً من تلك التي كانت موجودة, للاستخدام في بيوت آبائهم واجدادهم». اما غير العراقيين فيقتنون منها عادة «ما يحمل نقوشاً وكتابات, او مشاهد عراقية, من آثار وسواها, مصنوعة في شكل بارز, وملونة بالألوان الخاصة بمثل هذه الصناعات النحاسية». ولهذه الأسباب ربّما, تسعى امانة بغداد الى إنقاذ هذه الذاكرة من الانطفاء... فقد صنّفت «سوق الصفافير» على قائمة «اسواق بغداد التراثية». وهي تعمل على حمايتها, وتجديد شكلها العام بإضفاء الطابع التراثي البغدادي على مدخلها... *نشرت في "الحياة" 2005 وحسب الرابط التالي
|